ثراء الحياة عند الجاوي الأديب

> «الأيام» د. يحيى قاسم سهل:

> فالجاوي ليس كما يعتقد الكثيرون رجل سياسة ومناضلا وحدويا فحسب، بل هو كذلك مترجم وصحافي وشاعر وأديب ومثقف عميق الرؤية ومنفتح على جل تيارات الثقافة الإنسانية.

والجا يختزل عمر الجاوي بجانب واحد.

ويمكن تسليط بعض الأضواء الخاطفة على ملمح واحد في شخصية عمر الثرية ثراء الحياة ذاتها، أي الجانب الأدبي والثقافي.

في تقديمه لقصة (يموتون غرباء) لمحمد أحمد عبدالولي يشير الجاوي إلى أن محمد عبدالولي «قاص سياسي اجتماعي تتميز قصصه عن بقية القصص اليمنية بالمواكبة الفعلية للقصة العربية والعالمية من حيث الشكل والمضمون».

وأراد عمر بذلك أن يعلن أن فن القصة بوصفه جنساً أدبياً حديثاً في اليمن تأسس على يد عبدالولي. لذلك أضاف قائلاً: «منذ نهاية الثلاثينات والقصة اليمنية تتخذ طابع الخطابة والوعظ الاجتماعي والسياسي وتنحو منحى رومانتيكياً فيما بعد.. وقد تأثر أول كاتب قصة يمنية وهو أحمد البراق بأسلوب المنفلوطي في الوعظ. وكان كتاب القصة في عدن 1956م مجرد رواة عن حب رقيق مصدره الثقافة وليس الواقع، وكتب الدحان مقطوعات شاعرية صغيرة في الصحف العدنية تم طبعها في كتيب وأنهى علاقته بالقصة. وبدأ علي باذيب يكتب القصة السياسية المباشرة بأسلوب حديث.

مما سبق، يتضح للقارئ أن الجاوي يمتلك ثقافة أدبية بل وعلى اطلاع بالحركة الأدبية ليس في اليمن بل وعلى مستوى الوطن العربي ولو تفرغ الجاوي للأدب لملأ الفراغ الكبير الذي يعاني منه النقد الأدبي.

وتجدر الإشارة إلى أن الأدب عند الجاوي ليس حرفة مجردة عن الوظيفة الاجتماعية والسياسية.. الخ، ولكن ذلك ليس على حساب العناصر الجمالية والفنية بدءا باللغة وتفجير طاقاتها والصدق في إعادة إنتاج الواقع وعكسه جمالياً.. ويتضح ذلك في إشارته في نفس التقييم السالف الذكر.

«هذه القصة الطويلة- للشهيد من أنضج قصصه على الإطلاق. وهي في نفس الوقت تعبر عن موقف سياسي واجتماعي اللكاتب من القضية اليمنية ولقد طبعناها كما هي بما في ذلك بعض الركاكة في الأسلوب وبعض الأخطاء اللغوية لقيمتها التاريخية».

كما يتجلى موقف عمر من هذه المسألة أيضاً في تصدية لجيل السبعينات وآرائهم في الأدب والفن في افتتاحية (الحكمة) العدد الرابع، السنة الأولى، يوليو/ أغسطس 1971م، الذين على حد قوله تناولوا مشاكل الأدب بطريقة سطحية مغرقة في التعميم، ومجرد تشويه لآراء أساطين الفكر بليخانوف ولينين ولوفافر وغيرهم.. ولم يعرفوا القصد من شعار (الفن لمصلحة الجماهير).

ويجب الإشارة إلى أن عمر لم يطلق على رائعة عبدالولي (يموتون غرباء) لفظ رواية.. بل قصة طويلة وهذا الكلام لا يصدر إلا من أديب حقيقي مطلع على كافة الأجناس الفنية، ولم يكن الجاوي مجافياً للحقيقة في ذلك القول، إذ أن اليمن لم تعرف فن الرواية إلا على يد زيد مطيع دماج في رائعته (الرهينة).

إن إصرار الجاوي على ضرورة ارتباط الأديب بقضايا الناس يرتبط اساساً بإيمانه بالكلمة ودورها الفاعل، لذا يقول في أكثر من موقع يجب أن تكون الكلمة مسؤولة، ولذا فإن الأهداف السامية عند الجاوي يمكن الوصول إليها عن طريق الكلمة المسؤولة، الكلمة الهدف، الكلمة الفعل، الكلمة الموقف.

ويلحط أي باحث في إرث الجاوي الفكري والثقافي، تعدد منابعه الثقافية واستيعابه لتياراتها وأشكالها، ويتضح ذلك من اعتزازه كعربي وعلى نطاق الفن: «ان علي باكثير قد شق طريقاً مبدعاً على نطاق الشعر، وبدأ مرحلة جديدة على طريق القصيدة العربية الجديدة مع زميله المرحوم حسن عبدالرحمن بن عبيداللاه وقبل أن يتسلق الشعراء كالسياب ونازك والبياتي وصلاح عبدالصبور وغيرهم على أول سلم التسلق».

إن فهم الجاوي العميق لدور الأدب ووظيفته في الحياة يتجاوز مفهوم الالتزام الأيديولوجي إلى آفاق الحياة الرحبة ونلمح ذلك عنده في وقت مبكر (افتتاحية «الحكمة» 15 مايو 1971م) إذ يقول: «إن ما يتميز به الأدب اليمني في العصر الحديث هو طابعه الوطني الثوري الذي وصل في كثير من الأحيان إلى درجة المبالغة في نسيان جوانب الحياة الأخرى، كما فعل الزبيري الشاعر وعلي باذيب القصصي».

وإذا كان الجاوي، كما سبق القول، لا يرى الأدب دون هدف او وظيفة بل يجب أن يعكس الواقع إلا أنه يرى «أن انعكاس الواقع لا يقصد به مطلقاً الانعكاس الحرفي أو الميكانيكي، لأن هذا الصنف من الاستيعاب مجرد تسطيح للواقع بعيداً عن الفهم الصحيح، وإنما يقصد به استيعاب الثقافة الوطنية الشعبية والفكر الإنساني التقدمي كمدخل للفهم الموضوعي لحركة الحياة في بلادنا ومن ثم عكسها بقالب فني للجماهير».

فالفقيد يكتب النثر بلغة شاعرية. وفي كتاباته نجد تجربة إنسانية متفردة الملامح، ونجد توظيفاً للتراث وغنى في الاطلاع على روافد الثقافة الإنسانية لأن الثقافة في اليمن وفقاً لفهم الجاوي نسيج من هذه الثقافة بخصوصيتها العربية والإسلامية.

ولعل الملمح الثقافي في شخصية الجاوي وإيمانه بدور الكلمة، يتجسد وبجلاء في ما كتبه في افتتاحية «الحكمة» العدد (155) ديسمبر 1988م: «بعد الثورة بأشهر، وعلى وجه التحديد في حزيران عام 1963م كانت صنعاء تعج بالبشر الذين بلا مأوى ولا عمل، من أولئك الذين عادوا لحماية الجمهورية. فانخرط أغلبهم في الحرس الوطني واتجه الآخرون إلى الوظائف الحكومية النادرة وبقي جزء في المدينة التي بلا شوارع يبحثون عن المجهول وكنت واحداً من هؤلاء. ولم تملك صنعاء قبل ربع قرن مكتبات لبيع الكتب الحديثة أو دار كتب للاستعارة، عدا تلك التي تتبع المسجد الكبير.. ودون مقدمات تذكر اتجهت إليها للاستعارة».

ذلك هو عمر الجاو الذي اختار طريق الثورة بمواصلة تعميق الفكر ليدافع عن مستقبل المشروع الذي كان صنو حياته.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى