قصة قصيرة بعنوان (الكـابتـن)

> «الأيام» محمد أحمد باسنبل:

> لم يكترث والعرق الذي ينز من جبهته قد قارب شفتيه، خطا بخطواته والشرود باد عليه، تطلع في صفحة البحر الهادئ الذي أمامه، ساوره الامتعاض بعض الشيء، تبدى له الشاطئ فسيحاً، رنا باتجاه لهب منبعث من كومة حطب، تناهى إلى مسمعه أصوات اشتدت حدتها فجاة، أمسك بعمود نور، وراح يراقب كل ذلك ببرود.

النار المشتعلة زاد لهيبها عندما قام رجل ذو عمامة بيضاء بإذكاء جذوتها. فأشاع ذلك جوا فضولياً، تقاطر على إثر ذلك الصيادون حوله. لكنه ما برح أن أكمل سيره عبر الجسر القديم المؤدي إلى القلعة، قابله الملهى الليلي، رمق كل شريد إليه، أخذ يمعن النظر برهة في المكان، ثم استرسلت خطواته نحو شاطئ (صيرة) بثبات، وهو في طريقة دس يده في جيبه فأصاب وتد الصيد والصنارة، تفحص بعينيه الصخرة الهائلة المنفلقة، كان هناك رجل طاعن في السن بالقرب منها، استأنس به، واقترب منه، رفع مئزره قليلاً إلى خصره، رمى بالصنارة بعيداً، وجلس يشوبه القلق وجماً.

أحس فجأة بالعجوز يتفرسه ملياً، اضطرب .. ساوره الضجر. أراد أن يتشاغل بطائر يحوم حول القلعة، ولكنه فضل الانكفاء على نفسه وسط حفر لفئران جائعة.

- أعندك عود ثقاب؟

باغته العجوز بسؤاله ولم يحر جواباً.

- أريد أن أشعل قمة القلعة حتى يراها!

قال العجوز تلك الكلمات بشرود بالغ، وصوت قوي وعميق.

ابتعد عنه خطوة، لكن العجوز باغته، جذب ساعده إليه بشدة فاختل توازنهما وكادا أن يقعا معاً.

- يا بني، بعد رحيل الكابتن لم يتمكن أحد هنا من صيد سمكة واحدة!

وجلسا صامتين يحرسان الفضاء الرحب .. وأطبق سكون رهيب حولهما.

- كانت هنا سفن راسية تعود لرجل، لرجل ذي لحية كثة، وشارب مفتول، يدعى الكابتن هنس .

وسكت العجوز، وعاد السكون يلف كل شيء.. وفجأة ظهر أمامهما قارب يحبو متجها نحو الأعماق، ومن بعيد لاحت سفينة لازوردية تتقدم بتؤدة إلى الشاطئ.. أردف العجوز:

- لن ياتي الكابتن حتى تحترق هذه القلعة.

ورنا بصرهما بتلقائية نحوها، ثم انكفآ على أنفسهما صامتين.

وعلى حين غرة انتصب العجوز واقفاً وكأن شيئاً قد أثاره، تطلع أمامه وأشار بسبابته نحو السفينة اللازوردية:

- إنها كسفينة الكابتن.. سفينة الكابتن كهذه.

في هذه الأثناء دوى صوت رعد مخيف في السماء ثم انبثق منها خيط نار فأصاب أعلى القلعة، ويا للدهشة! اشتعل الحطب الذي توسله العجوز عند مدفعها القديم فأضاءت النار ما حولها، وازداد اقتراب السفينة اللازوردية باتجاه الهضبة.. هضبة القلعة.

إلى حيث أشار راحا ينظران، كانت سفينة كبيرة تعود لزمن مضى، مقدمتها تشبه ناباًً مدهوناً بلون البحر، يقف عليه رجل ذو لحية ومن ورائه يصطف رجال كثيرون لهم سحنة غريبة، ارتد العجوز إلى الوراء مذهولاً فانزلق إلى إحدى الحفر، قام من فوره وركض نحو أكواخ الصيادين بسرعة فائقة، كانت قدماه تحطان على الصخور بخفة غزال شارد، ومن شدة ركضه انحل رباط خصره فطار مئزره في الهواء وسط ذهول الجميع. وغاب لبرهة في أحد البيوت الخشبية المحاذية للبحر.

وعاد وهو على هيئة أخرى، كسا خلالها رأسه بطاقية بيضاء ملفوفة بزهور الفل، وبقميص أزرق قديم، شابه الحبور وهو يتطلع إلى القلعة، أخذ يبتسم وكأنه قد حاز شيئاً عظيماً، وبدأ يصعد إلى القلعة واثق الخطوة.

صعد إلى القمة، والنار المتوقدة كادت تصبح رماداً، خلع المسند الخشبي للمدفع ورماه في جذوة النار، وراح ينظر من الضفة المطلة على المحيط، نحو السفينة ونحو الكابتن. لكن السفينة دارت إلى الغرب وكأنها تعود على أعقابها.

امتعق وجه العجوز وأخذ ينادي بأعلى صوته:

- ستامفورد.

انهمرت الدموع من عينيه غزيرة وراح ينتحب بصوت مكلوم.

حلق الصيادون حول القلعة شاخصين بأبصارهم نحوها، قام أحدهم وأحرق قاربه، وتقاطر الباقون إلى قواربهم، أرادوا اللحاق بالسفينة، لكنها أخذت تتوارى وسط غبار المحيط الهندي، وسمع بشكل جلي صراخ حزين مصدره أعلى القلعة.

تقول الحكاية:

إن قابيل وارى سوأة أخيه هابيل بداخل قلعة صيرة وإن من سيوقف قتال القبائل العربية رجل من بلاد الإنجليز، رحل ذو لحيا كثة وشارب مفتول موصول بها، يدعى الكابتن هنس.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى