(الراعية) عند شعراء العامية بأبين

> «الأيام» صالح عقيل بن سالم:

> مرت اليمن أثناء مرحلة الاحتلال وما بعدها بظروف قاسية عانتها، وخسرت كثيراً من أبنائها. وكان ذلك مثار التفات شعرائها، الذين كانوا أصدق أبنائها تعبيراً عن الحياة، فقد حاول بعضهم أن يجعل الصورة الرمزية أداته لنقل معاناة بلاده.

ومن تلك الصور الرمزية (الراعية)، إذ جاءت فطرية عفوية مأخوذة من البيئة التي يعيشون فيها، وذلك ما زادها حسناً وجمالاً.

كما أن هذه الصورة قديمة تناولها الشعراء منذ الجاهلية، غير أنها في كل استخداماتها مشعة مقمرة توسع من دائرة الشعر العربي وتفتح آفاقه، وذلك بتطلعات الشعراء ليخلقوا من القديم جديداً يلائم المرحلة والتجربة.

وما يعنينا هنا تناولها عند شعراء أبين في مرحلة سابقة، إذ جات مكللة بالمعاناة والمكابدة تتفق مع اليمن في تلك المرحلة.

يقول الشاعر الجنيد - وهو من فحول شعراء منطقة أحور- في مرحلة السبعينات تقريباً:

وراش اليوم ياذ الراعية مقلوبة الصورة

ورا حقوش بلانسعة وراسش خيّله مكشوف ورا زوجش سخي بش طلقش ردّش على صهوره نسي جملش ومعروفش قليل الجمل والمعروف

الشاعر الجنيد عاش مرحلة ما قبل الثورة وبعدها، وهو من الشخصيات الوطنية المناضلة، نظر إلى اليمن في ظل ظروف معينة، فلم يجد لها إلا تلك الصورة (الراعية) وهي صورة قريبة من الشاعر استقاها من بيئته توحي بقرب الوطن من نفسه. وهي صورة كلية حاول أن يرسمها من خلال تضافر الصور الجزئية (مقلوبة الصورة، بلا نسعة، راسش خيّله مكشوف) كما حاول أن يخدم الصورة بتضافر الموسيقى، فقد أسبق القافية بحرف مد (الواو) لامتداد النفس، وختم القافية بحرف (الفاء)، فكانت (وف) توحي بالتأفف والضجر والضيق من المرحلة المحيطة.

لقد تركت هذه الصورة أثرها على مخيلة الشعراء الذين أتوا من بعده، ومنهم الشاعر والأديب أحمد ناصر جابر من منطقة يرامس (المعر أبو عامر)، فقد عارض تلك القصيدة في ظروف عاشتها اليمن في مرحلة الثمانينات منها قوله:

نسي جملش وترّك بش وجاب اخبار منكورة

يبانا نركبه مهره ملجّم محلية مسنوف

وراش اليوم يا غبني عليش النفس مقهورة عليش القلب يتقطّع ووجه المولعي مكسوف

حياتش بعدما ولى عليش الجيد مضرورة

ومن بعده حياة البوش بايصبح ولا مقطوف

المعارضات من الفنون الشعرية القديمة أحسن ما فيها الالتفات إلى تجارب سابقة، وأحسنها ما وافق الوزن والقافية، وخالف الموضوع غير أن الشاعر الجابري، لم يخرج عن قصيدة الجنيد في (الوزن والقافية والموضوع)، وما دعاه إلى ذلك تشابه المرحلة والظروف التي مرت بها اليمن، فالتجربة هي نفسها السابقة تتكرر، فلا يجد مبرراً للخروج عن الموضوع، فقد ظل ملتزماً ومنبهاً إلى خطورة الموقف وتكراره، فالتجربة تتضاعف والمعاناة تزداد ألماً وحرقة. وقد كانت للمفردات والصور المنحدرة من معجم الرومانسيين دلالة على ايصال التجربة، وتأثيرها في نفوس المتلقين، من ذلك قوله (يا غبني، عليش القلب يتقطع، مقهورة، مكسوف، مضرورة، ولا مقطوف).

ويأتي شاعر آخر (كور سعيد) من منطقة الحصن وهو شاعر مشهور يرسم صورة أخرى (للراعية) خرجت عن صورة الجنيد والجابري، صورة غزلية، ليس فيها من التقارب والالتقاء سوى الاتفاق في اختيار الصورة منها قوله:

ياراعية وابوي أنا قلبي لهب

من حيث هبيتي أنا قلبي يهب

بيتش تجيني اليوم بانرعى الهوى

والبوش بايرعى وسط قلبي المحب ..يا راعية

إن كل ذلك يؤكد أن هذه الصورة متجددة في مخيلة الشعراء.. وأكثر ما يستخدمها شعراء الريف لتفي بأغراضهم وتجاربهم الذاتية والعامة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى