عائض باسنيد .. تجليات زاهد في الحياة

> د. هشام محسن السقاف:

> بدا متعباً، السير أنهكه من طوله في زوايا التاريخ والأحداث، لم نلتقه شاباً تتأسس بين يديه ملامح اليسار اليمني، حيث الفكر يتسيد على ما عداه، وهو سليل عائلة تاهت في الفكر والثقافة والحياة الاجتماعية، ولم تبخل يوماً أن ترفد ميادين السياسة بفرسان من أبنائها.. وكان هو بعينه: (عائض باسنيد) أحد هؤلاء دون أن نغفل آخرين من البيت العتيق ذاته من إخوته أو نتجاوز - دون تعمد - كبيرهم الذائع الصيت (سالمين باسنيد).

من المشاهد العجيبة أن صاحب الباع الطويل في صنع تحولات الزمان الخمسيني باتجاه أفكار اليسار في عدن (عائض باسنيد) وقد أنفق الجهد والمال في سبيل الفكرة المنتقاة، فكرته التي أحب والتزم بها، يمر في أفق اليسار الآخر، الأقل ما يمكن توصيفه في عدن غداة الاستقلال (باليسار المراهق) كمرور السحاب الهادئ فوق قمم شمسان، فلا هو وجد ضالته ليسقط مطراً في أرض يباب تقوم عليها المتاجرة بالشعار والأيديولوجيا دون دراية أو تبصر، ناهيك عن صراع الإخوة الأعداء في الدار، ولا هؤلاء المعتركين أكثر الوقت ممن يستنجدون بالسماء لسقوط الأمطار، فهم أجهل الناس بالفكر الذي يحملونه على رؤوسهم لتأكل منه الطير، فكان من أمره أن حط رحاله في (تعز) التي كان قد سبق إليها أحد أقطاب اليسار ممن يرعون لـ (عائض) أسبقية الفكر والحركة الأستاذ عبدالله عبدالرزاق باذيب، وإن اختلفت الأزمان وتغير المكان بين تعز (أحمد يا جناه) عندما أمّها لغرض النضال الباذيب، والوقت الذي جاءها (باسنيد) للعمل والتكسب الشريف من مهنة الآباء والأجداد، وهناك التقيته.

بدا متعباً عائض باسنيد حين عرفته ونقياً هادئاً في مكانه الذي يؤمه نفر قليل من أبناء (الجنوب) الذين سبقوه (مشردين) إلى الحالمة تعز على خلفية الصراع الذي دار مدراراً في عدن منذ استقلالها من الإنجليز في 1967م.

ذهبت بمعية أخي شيخان والأخ العزيز عبدالله سالم (النزاع) من آل عتيق والأخ أبوبكر أحمد عبدربه، من العزيبة ولاحظت أن الثلاثة المذكورين وهم من جبهة التحرير (التنظيم الشعبي) يضعون مكانة أسمى في قلوبهم لـ (عائض) إذا تحدث أنصتوا، وإذا فسر وشرح خلفيات الأحداث التي مر بها الجنوب اقتنعوا عن وعي بصدق محدثهم، أما إذا ألقى شعراً فإنه يأسر ألبابهم بإلقائه المتقن. ولقد سمعته وهو يلقي على مسامعهم قصيدة (الغضب الخلاق) لشاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري، والتي كان قد ألقاها الشاعر في عدن نهاية العام 1981م ونحن الآن في العام 1983م في بيت الـ (عائض) بتعز بحوض الأشراف، والوقت وقت مقيل، أما الصوت المتدفق لعائض فيأتي ريان ليشنف الآذان بهذه الكلمات:

من موطن الثلج زحافاً إلى عدن

خبّت بي الريح في مهر بلا رسنِ

كأسي على صهوة منه يصفقها

ما قيض الله لي من خلقه الحسنِ

من موطن الثلج من خضر العيون

لموطن السحر من سمراء ذي يزن

من كل ملتفة الكشحين ناعمة

ميادة مثل غصن البانة اللدن

ياللتصابي أما ينفك يجذبني

على الثمانين جذب النوق بالعطن

قالوا أما تنتشي إلا على خطر

فقلت ذلك من لهوي ومن ددني

سبحان من الّف الضدين في خلدي

فرط الشجاعة في فرط من الجبن

لا أتقي خزرات الذئب ترصدني

وأتقي نظرات الأدعج الشدن

نعي جيداً أن ألق مدينة عدن تضافر في إتقان صنعته رجال أفذاذ بحجم (اللقمانيين) وآل (خليفة) و(المكاوي) و(الباشراحيل) و(الباسنيد) وغيرهم ويوم أن غمر فضاءً لا يستهان به عائض باسنيد، بالتأسيس المسنود على العقل لفكر اليسار، كان ذلك محض تجليات المدينة الأهم في صنع تحولات الزمن في الأرض اليمنية، بالتنوع الفكري والسياسي الذي يفضي إلى تكامل محسوب يصب في عدن لصالح كل اليمن.

ولم يكن الرجل أسيفاً أن تقاد السلطة أو تنقاد لآخرين لم ترق التجربة أنف أحدهم، فظل الباسنيد عائض زاهداً في مغانم الحكم، راضياً بتربية أبنائه الذين نبغوا في مجالات دراستهم وعملهم بصمت يحسدون عليه.

(رحمة الله الواسعة على عائض سالمين باسنيد).

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى