القاص عبدالله سالم باوزير.. وشيء من الذكريات

> «الأيام» سعيد عبدالله سعيد:

> كنا مجموعة من الأصدقاء عددهم أربعة، وكانت أعمارنا حينذاك خمسة عشر عاماً. عندما بدأت لدينا هواية حب القراءة وكانت قراءتنا الأولية قصص (المغامرون الخمسة) و(الشياطين 13) للكاتب المصري محمود سالم و(مغامرات أرسين لوبين) للمؤلف الفرنسي موريس لبلان وروايات الكاتبة الإنجليزية أجاثا كريستي وقصص الفريد هيتشكوك التي كان يختارها من الأدب الأمريكي أو الأدب الإنجليزي أو التي كان يؤلفها هو بنفسه. وكنا نتبادل ما نقرؤه فيما بيننا.

وكنا نقرأ كل ما يقع في أيدينا فقرأنا ملخصات القصص العالمية التي تصدرها دار العلم للملايين - بيروت- تحت عنوان "المكتبة العالمية للفتيان والفتيات" كروايات أوليفر تويست، جزيرة الكنز، كوخ العم توم.. الخ وقرأنا لنجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ويوسف السباعي وإحسان عبدالقدوس وجرجي زيدان طبعاً بعضاً من أعمالهم وليست كلها.. وقد حاولت هنا في هذه المقالة أن لا أسهب في الحديث عن مصادري الأولى في القراءة والتي أعتبرها جزءاً من تكويني الثقافي وهي عديدة ولا يتسع لها هذا الحيز.

وذات يوم سلمني واحد من الاصدقاء هو الأخ عبدالرحمن الذي يعتبر أقرب أصدقائي إلي كتاباً صغير الحجم قائلاً لي إنه أعجبه كثيراً، فقراته كاملاً، إنه كتاب (الرمال الذهبية) للقاص عبدالله سالم باوزير، وبعد أيام أعطاني كتاباً آخر لنفس المؤلف عنوانه ثورة البركان، فقرأته في فترة وجيزة فكنا نتعجب أنا وصديقي هذا أن يوجد كاتب بهذا المستوى يكتب هذه القصص القصيرة كما يكتبها كبار الكتاب، وكنا نجلس نتناقش أنا وصديقي حول مواقف وأحداث هذه القصص، وكان يخيل إلينا إننا إذا سرنا في الشارع سنرى أبطال هذه القصص التي قرأناها وعشنا معها أمام أعيننا .. هكذا كانت تصوراتنا وتخيلاتنا في تلك الفترة.

وانقضت السنوات وكبرنا وذهب كل واحد منا في حال سبيله إذ هاجر كل الأصدقاء إلى الدول العربية.. ولم أستطع أن أكمل تعليمي الثانوي إذ اكتفيت بمرحلة أول ثانوي (نظام قديم) والتحقت موظفاً صغيراً ولي من العمر 18 عاماً لدى شركة البرق واللا سلكي أشق طريقي رغم ظروفي الأسرية الصعبة التي جعلتني أترك مقاعد الدراسة وألتحق بالوظيفة لكي أعول أسرتي الصغيرة لكوني الرجل الوحيد في حياة الأسرة.

وذات يوم بينما كنت أنا وزميلي شهاب علي أحمد في مكتب البرقيات في منطقة "كريتر" الذي يحتل جزءاً يسيراً من مصرف اليمن، أمام مستشفى الشعب، إذ دخل علينا المكتب صباحاً رجل قصير القامة نحيل الجسم، وما إن رأيته حتى عرفته على الفور.. إنه الكاتب عبدالله سالم باوزير فكانت هذه أول مرة أراه فيها في حياتي، فهو لم يتغير كثيراً بالرغم من مرور هذه السنوات، وصافحناه أنا وزميلي شهاب علي أحمد الذي يكبرني سناً وخدمة وسألته باندهاش:

- هذا الكاتب عبدالله سالم باوزير ما الذي يأتي به إلى هنا؟

فأجابني:

- إن لديهم عنواناً برقياً ويأتون إلى هنا ليسلمونا برقياتهم مطبوعة، فهو يعمل لدى تاجر صاحب وكالة. وعندما أحس زميلي شهاب بشدة فرحتي وسعادتي برؤيته قال لي:

- اطمئن ستراه دوماً خلال فترة انتدابك هنا من قبل الإدارة طوال الثلاثة الأشهر، إذا كنت تريد منه شيئاً سأكلمه.

- لا داعي.

وفي يوم من الأيام جاء إلينا القاص عبدالله سالم باوزير وأخرج من حقيبته الصغيرة المتواضعة مجموعته (الحذاء) طبعة 87م وسلمها للأخ شهاب قائلاً:

- هذا آخر كتاب صدر لي.

وبدوره شكره وأخذه منه فغضبت وشعرت بالحنق كيف يهديه هذا الكتاب؟

إن إهداءه في غير موضعه، فزميلي شهاب لا يقرأ الأدب ويكره قراءته فهو يميل إلى قراءة الصحف والمجلات السياسية والرياضية.

ومضت سنوات وكنت ألتقي بالأديب عبدالله سالم باوزير بين الحين والآخر في نهاية الشارع الممتد من منزل ومنتدى الكاتب حسين سالم باصديق عند مغادرته في الساعة التاسعة مساء وننتحي جانباً نتحدث قليلاً فأسأله عن صحته وأخباره الأدبية وهل هناك جديد، وأبدي له إعجابي الشديد بما يكتبه من مقالات وقصص في صحيفة (14 أكتوبر) اليومية فأنا حريص دوماً على قراءة كل ما يكتبه ولا سيما عندما بدأ يكتب بانتظام في الصحيفة.

والتقيته ذات مساء في ليلة من ليالي رمضان عند مكتبة الشيباني في الشيخ عثمان، وتكلمنا حول تكريمه، وعندما سألني هل تمكنت من الحضور في ليلة من الليالي؟ أجبته بالنفي وذلك لظروفي التي تحول دون المشاركة في أية فعالية من الفعاليات الأدبية، فأنا قلما أحضر اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، فحدثته عن مجموعتيه القصصيتين (الرمال الذهبية) و(ثورة البركان) وأنني قد قرأتهما في صباي الباكر، وأعجبت بشخوصهما التي رسمها بكل مهارة وإتقان حتى خيل إلي أنني إذا نزلت إلى الشارع سأراها أمام ناظري، وقلت له إنني أملك في مكتبتي الطبعة الأولى لكل من المجموعتين .. وفجأة ظهرت على وجهه الغبطة والحبور وقال لي إنني أبحث عن الطبعة الأولى لثورة البركان وسوف أعطيك الطبعة الثانية منها، لأني أريد أن أكتب حلقة عن المجموعة الثانية. فرددت عليه مبتسماً: ولدي أيضاً الطبعة الثانية منها.

ويبدو أن أمل ورجاء الأستاذ عبدالله قد خاب فأردف قائلاً: لو سمحت أريد منك أن تقوم بتصوير الغلاف الأمامي بحجم صغير والآخر بنفس حجم الغلاف الأصلي. فقلت له: بكل سرور. ولكن لي طلب أريد منك الطبعة الثانية من كتاب (سفينة نوح وحكايات أخرى). فقال لي: ولا يهمك نتفق على أن نلتقي يوم الأحد في ختام الاحتفال في اتحاد الأدباء. وتصافحنا واتفقنا على أن أسلمه الصورتين ويسلمني الطبعة الثانية من (سفينة نوح وحكايات أخرى) التي عجزت عن الحصول عليها هنا في عدن وذلك بسبب طباعتها في صنعاء ككل الكتب اليمنية من مجاميع قصصية ودواوين شعرية وأية كتب أخرى التي لا نجد لها أثراً هنا في مكتبات عدن.

وأنا في طريقي إلى اتحاد الأدباء أحمل المظروف المغلق الذي فيه صور الغلاف لمجموعة (ثورة البركان) ومجموعة الرمال الذهبية كنت أتساءل في ذات نفسي ترى ماذا سيكتب في إهداء الكتاب إلي وهو لا يعرف اسمي ولم يسألني عنه، وأجبت نفسي الحائرة: لا تقلقي لن يكتب لك أي إهداء طالما أنه لا يعرف حتى اسمك، كل ما سيفعله أنه سيضع الكتاب داخل مظروف مغلق تجنباً لأي إحراج وكفى.

وعند انتهاء الاحتفال قام الجميع لمصافحته وتهنئته متمنين له دوام الصحة والعافية ومزيداً من الإبداع، وجاء دوري واحتضنته وسألني بعد التحية هل أحضرت الصور؟

قلت له نعم قال ضاحكاً الآن نتبادل الأسرى (وضحكنا مع بعضنا) وقال: خذ هذا الكتاب وأعطني ما معك.

وسلمته المظروف وسلمني أيضاً مظروفاً مختوماً، وغادرت الاتحاد وبي شوق ولهفة لمعرفة ما هي كلمات الإهداء.

وبينا أنا أقف على الشارع العام في انتظار سيارة أجرة تقلني إلى منزلي في منطقة المنصورة، مزقت طرف المظروف وفتحت الكتاب بيدين مرتعشتين وقرأت الإهداء.

عندئذ ضحكت ضحكة عالية نبعت من القلب، لقد كان الإهداء باسم زميلي شهاب علي أحمد وبإمضاء المؤلف وتاريخه 9/12/2001م.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى