حماية الذوق العام

> محمد عبدالله الموس:

>
محمد عبدالله الموس
محمد عبدالله الموس
لا أذكر متى قرأت عن نظرية النافذة المكسورة التي اعتمدها مدير شرطة مدينة نيويورك عندما أوكلت إليه هذه المسؤولية في مدينة تشتهر بانتشار الجريمة المنظمة التي تصل إلى السطو المسلح.

قامت نظرية الرجل على قاعدة أساسها أن مظاهر الخلل البسيطة توحي بضعف القانون، أو عجز حماته، وتشجع على ارتكاب الجرائم الكبيرة، ولإثبات نظريته، جلب سيارة بنافذة مكسورة - منها جاء اسم نظريته تلك - وتركها في أحد الشوارع الشهيرة بسرقة السيارات وعاد بعد ساعات ولم يجدها، ثم أتى بسيارة أخرى سليمة وتركها في الشارع نفسه وعاد في اليوم التالي ليجدها كما تركها، وهكذا أمر رجاله بمكافحة المظاهر المخلة البسيطة ما أدى إلى تراجع الجريمة المنظمة بنسبة كبيرة، وأخذ بنظريته هذه (النافذة المكسورة) في كثير من البلدان.

في واقعنا يستحيل حصر المظاهر المخلة، منها ما يخدش الحياء العام (كقضاء الحاجة) في الأزقة وحتى الأماكن العامة ومنها ما يشوه الذوق العام كالأخطاء الشنيعة في يافطات بعض المحلات أو أسلوب عرض بعض السلع، ومنها ما ينتهك حقوق المواطنين مثل الغش في السلع والخدمات ومزاجية الأسعار بصورة تتجاوز مفهوم حرية السوق، ومنها ما يؤسس لثقافة التكسب كيفما اتفق حتى بالتعدي على حقوق الغير العامة والخاصة بلا وازع أخلاقي أو رادع قانوني.

إذا افترضنا أن عدم التعاطي مع هذه المظاهر المخلة هو امتداد طبيعي للعجز الرسمي الذي نلمسه، إلا أن قمة المأساة أن تمنح السلطات تراخيص لممارسة خدش الحياء العام والتعدي على ذوق المجتمع لأشياء تفتقر حتى لحرفة الصحافة بمعناها التنويري الذي ينمي ثقافة الناس أو الإصلاحي الذي يساعد المجتمع على التخلص من عيوبه ويبصر جهات القرار بالأخطاء أو يشيد بالإيجابيات.

تنتفض الجهات المختصة في كل مرة لمقاضاة بعض الرؤى لكنها لا تحرك ساكناً لحماية حقوق المجتمع الذي يدفع رواتب موظفيها من موارده ومن الضرائب التي تقصم ظهور أفراده، جموع المستهلكين الواقعين بين مطرقة الحكومة وسندان بائعي السلع والخدمات، لا تتحرك هذه الجهات في مواجهة التعدي الذي يزرع ثقافة (اللا) ثقافة، و(اللا) حدود.

حقوق المواطنة لا تتجزأ فكما أن هناك حدودا لانتقاد أفراد السلطة فإن هناك حدودا لحرمات وخصوصيات أفراد المجتمع، وعلى الرغم من عدم جواز شخصنة الشؤون العامة إلا أن رجل الدولة - أي دولة - شخص عام يدير شؤونا عامة تجعله عرضة للانتقاد، في حين أن التعدي على خصوصيات عامة الناس جريمة تستحق العقاب وحتى لو اعتبر أحدهم (بعض النشرات) جزءا من الحرب على الخصوم، على طريقة أكل الثوم بفم الغير فإنها مع ذلك تنخر في قيم المجتمع بما تحمله من سفه.

يا هؤلاء إن التعدي على الذوق العام وخدش الحياء العام يصيب المجتمع في صميم قيمه ويؤسس لثقافة (الهمج) التي نتحول معها إلى زرافات من البشر تنتهك حقوق بعضها بالصورة التي تحلو لها، وقيم المجتمعات هي أسس وجودها وتحضرها وهو ما تستقيم عليه الإنسانية، فقد قال سيد الخلق عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم (إنما بعثت لأتمم مكارم الاخلاق) وقال شاعر النيل حافظ إبراهيم:

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت ** فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى