لبنان .. ودرس السمو فوق الجراح

> أكرم أحمد باشكيل:

> ثمة علاقة بين التاريخ والجغرافيا وبين الإنسان والمكان وبين الثقافة والسياسة، ذلك كله نلحظه في توافق بديع ودقيق بتناغمه وتركيباته يأخذك التعقيد فيه إلى البساطة، والبساطة تفرز التعقيد أيضاً لكنك في كل التفاصيل تقف منبهراً أمام هذه التركيبة البديعة في جغرافيتها.. إنها لبنان.

لا أدري كيف أسجل هذا الإعجاب أو أصف هذا المشهد الاستثنائي من مشهدنا العربي العام الذي تجاوز كل مقاييسه حد الانبهار وربما أيضاً وصولاً إلى اللامعقول في زمن جعل المقاييس الوضعية مع كل علميتها تخرج عن إطارها المنهجي إلى ساحات المعجزات القادرة على قلب طاولة التوازن بكل إحداثياتها وأساليب لعبة الكسب والخسارة في ميدان الغلبة بين القوي والضعيف مما جعل الذهول سيد الموقف لحظة ولادة الشيء من اللاشيء والشجاعة من الخوف والقوة من الضعف والعزة من المهانة فقلبت الطاولة على رؤوس المراهنين الواثقين من كسب رهانهم فأداروها وكانوا خاسرين.

إن فجراً عربياً قد خلقته لبنان اليوم بل إن سموم الهزائم في الجسد العربي طوال أكثر من خمسين عاماً قد خلصتنا منها وأخرجتنا من حالة الخوف والخنوع والهزيمة إلى حالة الشجاعة والكرامة والنصر وإعادة الثقة بل جددتها في وجدان الأمة فأصبحت اليوم تتنفس تباشير هذا الفجر الآتي من لبنان المسكونة منذ زمن بصراعاتها المحلية والإقليمية والدولية التي دمرتها ولم تبق من جسدها شيئاً إلا أتت عليه باستثناء قدرة هذا الجسد على البقاء مقاوماً لكل ما يتجه صوب اقتلاعه من جذوره الوطنية والعربية والإسلامية فأصبحت هشاشة تكوينه الاجتماعي بكل طوائفه عامل قوة لها بعد أن كاد الآخرون بحساباتهم يضعونه في مصاف نقاط ضعفها ويراهنون على أنها جسر العبور إلى نكباته المتلاحقة ومشاريعهم الفاشلة فيه منذ زمن بعيد.

ولقد كان أقرب المقربين له يجعلون من ساحته حلبة لصراعاتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الدينية لكنهم ما إن يستمرأوا لعبتهم هذه حتى يكتشفوا أن لبنان أكبر مما يتصورون في مخيلتهم العقيمة التي تصور لهم بإدراكهم المحدود أنهم قادرون على جعلها دمية طيعة بأيديهم يقلبونها كيفما شاءوا فيصطدمون بتلك الذهنية الوقادة عند كل لحظة تقارب حقيقي معها ويشعرون بضعفهم وحينها ينسلون منها كما تنسل الشعرة من العجين. واليوم ها هي لبنان تكرر الدرس نفسه لهذه المدرسة التليدة في حصة من أعظم حصصها التاريخية لتسطر في كراس العرب نموذجاً جديداً في قيادة الأمة وزعامتها التي أتت طواعية في الوقت الذي تسعى كثير من الدول العربية للتنافس بالمال والقوة في أخذ دور الريادة فها هي تقود المواجهة مع العدو (الصهيو أمريكي) بكل أشكاله وعناوينه لا تقف عند حدود مجاراته بل تتجاوزه في معاركه العسكرية والسياسية والإعلامية مع فوارق كثيرة جداً .. جداً في امتلاك الوسائل والقدرات وشروط الهيمنة، إذ قدمت درساً في السمو على خلافاتها الداخلية بكل ما حملته من جراحات نازفة تضمد بيد وتضع اليد الأخرى على الزناد لتواجه العدو، كما أنها قدمت درساً آخر لكل أشقائها العرب الذين تجاوزوا الخطوط الحمر في دعم عدوها وعدوهم في حرب تتحمل تبعاتها نيابة عنهم فاحتضنتهم وكانت كلماتها لهم بمثابة البلسم للجراح رغم ما عانته منهم طوال هذا الوقت ولإدراك هؤلاء المتأخر لصدقية نهجها وقدرتها الأسطورية على الصمود الذي راهنوا على عكسه فتبنوا تلك المواقف.

وأبلغ الدروس وما يجب أن نعيه ونتعلمه منها هو حكمتها في تجاوز المشكلات الطائفية القائمة على الاختلاف المذهبي بين سنة وشيعة والقائمة على اللااختلاف الديني بين مسلمين ومسيحيين كانت تعطي بمعاني التلاحم والصمود والوحدة الوطنية أبلغ درس لأولئك الذين يحاولون النيل من وحدة المسلمين بكل مذاهبهم ووحدة العرب بكل دياناتهم.

إن لبنان تعطي لنا أنمودجاً للقيادة الحكيمة الشعبية والرسمية وحالة التناغم والتلاحم الجميل بينهما على قاعدة المصالح الوطنية العليا المشتركة بعيداً عن الحسابات الضيقة المفرطة في الذاتية التي ترفع شعار (أنا وما بعدي الطوفان) لتغدو لنا لبنان اليوم رغم ما تعانيه من جراحات الحرب النازفة باستمرار والتي نتألم من مشاهدتها لحظة بلحظة وقلوبنا قبل ألسنتنا تلهج لها بالدعاء والتضرع إلى المولى تعالى لحفظها وحمايتها من كيد الأصدقاء قبل حماقة الأعداء، ولتظل لبنان جوهرة الأمل لهذه الأمة التي طالها الصدأ من رطوبة النظام العربي الهزيل.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى