رحل فؤاد المهندس حامل راية الريحاني

> القاهرة «الأيام» ابرهيم فرغلي:

> غيّب الموت أمس الأول الفنان الرائد فؤاد المهندس عن عمر ناهز 82 سنة بعد صراع طويل مع المرض الذي اشتد عليه في الفترة الأخيرة. وقد جاء غيابه بعد اشهر قليلة من رحيل رفيق دربه الفنان عبد المنعم مدبولي، أستاذه كما دأب على وصفه، على رغم أنهما صنعا معا مجموعة من الأعمال الفنية اللافتة كندّين، مدى مرحلة وردية ازدهر فيها المسرح المصري خلال الخمسينات والستينات.

لكن غياب المهندس عن المسرح كان قد امتد في الواقع سنوات تزامنت مع أزمة وعي أصابت هذا الفن الذي لا يزال يتخبط في صعوباته حتى اليوم، بحثا عن مجده القديم. ولكن على رغم الغياب المادي للفنان، عن المسرح، وفي الحياة، إلا أنه خلّف تراثا من الأعمال المسرحية والسينمائية التي صنفت في مرتبة الإنتاج الرفيع في مجال فن الكوميديا والفن الهادف على السواء، وهما فنان صنعا الى حد كبير شهرة المسرح والسينما المصريين. ولعل فؤاد المهندس كان من القلائل الذين أثبتوا نجاحا متوازيا ومتكاملا في الحضور والأداء على خشبة المسرح وشاشات السينما معا، على رغم من مآخذ عدد من النقاد على استعارته بعض مبالغات الأداء المسرحي في السينما. إلا أن موهبته غير العادية كانت تمرر ذلك على الجمهور بيسر، بل لعله استطاع بهذه الاستعارات خلق حضور استثنائي في السينما، حضور صنع به مجده الذي يتمثل في عشرات المشاهد الكوميدية البديعة التي تحفظها أجيال وأجيال من جمهوره، وهو جمهور يعرف قيمته تماما، إذ بات يواجه اليوم الكثير من السخافات والمهازل التي تقدم الآن على الشاشات بصفتها كوميديا.

ولعل نجاح المهندس في تقديم هذا النموذج الفريد من الكوميديا، يعود الى استيعابه البالغ لدرس أستاذه الرائد الراحل في المدرسة نفسها نجيب الريحاني، الذي تتلمذ على يديه وتعلّق بوصيته التي كان يرددها له باستمرار: "كن رجلا ولا تتبعني".

ظهرت موهبة المهندس باكراً عبر التقليد والانبهار الطفولي بشخصيات الممثلين العالميين وخصوصاً تشارلي شابلن، بينما كان لوالده زكي المهندس أستاذ اللغة العربية في دار العلوم دور أساسي في تعميق معرفته باللغة ومخارج الألفاظ التي تعتبر العماد الرئيسي لممثل المسرح التقليدي. وكانت الخطوة الأولى الأهم في طريقه الى الفن عندما انضم إلى فريق التمثيل في الجامعة التي اختار أن يدرس فيها التجارة من دون رغبة حقيقية منه. ثم جاءت مشاهدته الريحاني في مسرحية "الدنيا على كف عفريت" بمثابة المصادفة التي تنتظر كل شخص لتحول حياته بين ليلة وضحاها أو تضع قدمه في موضعها المناسب على سلّم الحياة. وكانت هذه المسرحية سببا لاقترابه من الريحاني، فبدأ مذذاك في حضور بروفات مسرحياته، ليتعلم كيف يقف على خشبة المسرح، واستمرت العلاقة بينهما حتى رحل الريحاني. وعندما شرعت مجموعة من الشباب، اصبحوا نجوم الكوميديا في مصر منذ ذلك الحين، في تأليف فرقة "ساعة لقلبك" الشهيرة عام 1953، كان المهندس واحداً من هؤلاء.

أما شهرة فؤاد المهندس كممثل له حضور طاغ وقدرات كوميدية غير اعتيادية، فبدأت مع مسرحية "السكرتير الفني" التي بدا تأثره فيها بالريحاني كبيرا من خلال شخصية ياقوت أفندي. وهي شخصية ظل حضورها متوهجاً ومؤثراً في تاريخ المسرح المصري المعاصر، واستلهم منها فنانون كثيرون نماذج شبيهة آنذاك. كانت تلك المسرحية بمثابة المستودع الذي أطلق منه المهندس شرارات موهبته الاستثنائية وشياطينها، وهي موهبة كان ينتزع بها الضحك انتزاعاً من المشاهد في أشد المواقف درامية، وذلك بلا افتعال، وحتى بلا ضحكة منه أو ابتسامة. وقد تألق بعدها في عدد من المسرحيات اللافتة، اهمها: "أنا وهو وهي"، "أنا فين وانت فين"، "سيدتي الجميلة" و"حواء الساعة 12"، وهي المسرحيات التي مثلت مجد المسرح الكوميدي المصري الذي استعاد وهجه مرة أخرى على يد المهندس في الثمانينات عبر ثلاث مسرحيات هي "إنها حقا عائلة محترمة" و"سك على بناتك" و"علشان خاطر عيونك"، التي شاركت في بطولتها الفنانة شريهان.

من المسرح الكوميدي وجد السينمائيون في المهندس ضالتهم فتهافتوا عليه، وكان عند حسن الظن بتطويع قدراته للشاشة الفضية عبر مجموعة كبيرة جدا من الأفلام الكوميدية منها: "أخطر رجل في العالم" و"انت اللي قتلت بابايا" و"مطاردة غرامية" و"عائلة زيزي"، و"أرض النفاق"، و"جناب السفير". وارتبط اسمه آنذاك بالفنانة شويكار التي شاركته في بطولة معظم هذه الأفلام، وكانت بدأت معه على المسرح الذي شهد تطور العلاقة بينهما وزواجهما في مسرحية "السكرتير الفني". وهي علاقة دامت عشرين سنة زاد خلالها تألقهما معا في ما مثّل ظاهرة استثنائية أخرى في العالم الفني، الى حد ان بعض المعلقين ذهب في وصف انفصالهما الى القول أنه أفقد المسرح الفني ثلث قوته.

لكن فؤاد المهندس لم يكن كوميديا فحسب، فهو لعب أيضا أدوارا درامية مؤثّرة في عدد من الأفلام التي شارك فيها التمثيل نجوم كبار، كعمر الشريف ورشدي أباظة وغيرهما، كما في "بين الاطلال" و"موعد في البرج" و"الشموع السوداء" و"نهر الحب" و"عيون سهرانة" وغيرها، وهي في مجملها كانت أفلاما ذات طبيعة رومانسية. أيضا، لعب المهندس دورا جوهريا في إطلاق عدد من المواهب التي سادت على الشاشة لاحقا ومنهم الفنان عادل إمام، كما قدم نموذجا للفنان الملتزم للقضايا الاجتماعية، وهو ما أصر على وصفه بـ"المسرح الهادف". وقد كان هذا الفنان الخلوق أيضا نموذجا لالتزام الفنان فنه ومواعيده وفقا للتقاليد العريقة للمسرح التقليدي. ولعلها المبادئ التي جعلته يعزف عن المشاركة في أعمال مسرحية لسنوات طويلة، استياء مما وصلت إليه الأمور من انشغال بمسرح تجاري خفيف يستبدل بالإسفاف والابتذال الكوميديا الاصيلة، وتسير أموره من سيئ إلى أسوأ.

في "عائلة زيزي"، قدم فؤاد المهندس شخصية المهندس الذي لا يشغله شيء في العالم عن الآلات الميكانيكية وعن محاولته إنتاج آلة جديدة تصنع النسيج من القطن بشكل مبتكر. وقد شاركه البطولة في هذا الفيلم سعاد حسني وأحمد رمزي وعقيلة راتب. وفي اعتقادي أن المهندس جسد في الفيلم الجانب الأساسي من شخصيته كفنان: فنان استحوذ عليه حب الفن فأصبح لا يرى سواه، ولا يشغله غيره، ولا يحركه شيء إن لم يكن على تماس معه. وهكذا سنتذكره اليوم بعد رحيله، فنانا أعطى نفسه بكليتها لفنه، روحاً وقلباً وجسداً ووقتاً وأرقاً وهواجس.

وسنتذكره أكثر في أيام بات فيها معظم الفن هراء، ومعظم الفنانين نجوماً من ورق.

عن «النهار» اللبنانية 17/9/2006

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى