تنويعات فنية على طبل (الكعمدي)

> «الأيام» مختار مقطري:

>
مختار مقطري
مختار مقطري
ما زالت دقات طبل الكعمدي تردد في أذني، بإيقاعها الرتيب، كان يضرب أحد وجهيه المصنوعين من الجلد بعصا خشبية قصيرة بيده اليمنى، وبيده اليسرى يلطم وجهة الآخر لطماً خفيفاً، والطبل مربوط بحبل قصير حول عنقه ليتدلى فوق بطنه الضامر، كان رجلاً أسمر نحيلاً متوسط القامة يطوف أحياء مدينتي (الشيخ عثمان) ليصل إلى ركن شارعنا في الواحدة بعد منتصف الليل تقريباً فيصيح بكلمة (سحور) بصوت مبحوح لكنه مميز وجميل في أسماعنا نحن الأطفال حينها على الأقل، كنا لا نصوم لكننا كنا نغالب النوم لنتناول طعام السحور مع الكبار، وإذا خشينا سلطان النوم حلّفنا أمهاتنا و(أمناهن سبع الأمانات) أن يصحونا للسحور، ثم نعود لنومنا لنذهب لمدارسنا (فايقين)، لكن كثيراً من الأبناء اليوم لا ينامون إلا بعد الثالثة فجراً، ليسهموا بدورهم في (صيام المدارس عن التدريس في رمضان).. هذا وخالد بن الوليد- وأنا أكتب هذه السطور- مازال أحد قادة مشركي قريش، فكيف هو الحال حين يقود جيش المسلمين إلى العراق والشام؟! فهل غياب (الكعمدي) هو السبب أم انتشار الفضائيات؟

زمان.. كان (الكعمدي) يصحبنا وينبه بعضنا إلى موعد السحور والاستعداد له، ويحذرنا نحن الأطفال من مضار السهر، واليوم.. فقد السحور بهجته في التفاف العائلة حول المائدة، فأفراد الأسرة الواحدة لا تتفق أهواؤهم في مشاهدة التلفزيون، ففيها شغوف ببرامج المسابقات، وفيها مولع بالمسلسلات، وفيها من لا يعجبه العجب و(الريموت) في يده. حتى أغاني (الفيديو كليب) بإيقاعاتها المصممة وفقاً لقدرات الأجساد العارية على التلوي والتمايل و(هز الوسط) .. حتى هذه الأغاني الأخطر من علب الطعام الفاسد لا تتوقف لا ليلاً ولا نهاراً في رمضان، فلماذا لا نعيد (الكعمدي) إلى الحياة؟.. فمن يدري فلربما عاد أفراد الأسرة إلى الالتفاف معاً حول مائدة السحور. وأخشى ما أخشاه هنا أن يكون حديثي هذا- من حيث لا أدري- حديث رجل (من أصحاب أول) وأن (الكعمدي) موضة قديمة واختراع ناسب وقتاً لم يعرف الفضائيات والبث المتواصل 24 ساعة، وأن لكل موعد أذاناً وعادات ورقصاً وأغنيات ومصادر تثقف وأساليب تعليمية ومناهج دراسية وتربوية، قد أكون كذلك، ولكني أعلن صراحة أني متعصب للقديم الذي علمني حب القراءة بدءاً بمغامرات الأذكياء (الخمسة).. تختح ونوسة ومحب وعاطف ولوزة، مروراً بعبد المجيد القاضي ومحمد عبدالولي وجورجي زيدان وميشال زيفاكو ثم بعوالم يوسف السباعي ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ثم آرنست همنجواي والبرتو مورافيا، واأدخلني قصائد الزبيري والبردوني ولطفي والجرادة وما زالت إلى اليوم سجيناً سعيداً في دواوين الشعر.. ذلك القديم الذي علمني احترام المعلم والأكبر سناً وعشق أم كلثوم فحفظت على نبرات صوتها الخالد أول قصيدة أحفظها .. قصيدة (الأطلال).. ليدخلني أداؤها المعجز دواوين إبراهيم ناجي.. نعم.. ذلك الماضي الجميل الذي ربطني وجدانياً إلى اليوم بدقات طبل (الكعمدي).

وحتى التحاقي بالمرحلة الابتدائية عام 1967م كنت أحسب عمل (الكعمدي) عملاً تطوعياً، وبعد سنوات قليلة عرفت أنه موظف في الحكومة، وبعد عدة سنوات اختفى (الكعمدي) من حياتنا فحسبته قضى أو أحيل إلى المعاش أو اعتنق الماركسية، وبعد سنوات انتهز اختفاءه الفنان القدير يوسف أحمد سالم فقدم أغنيته الجميلة (المسحراتي).. ولكن بعد سنوات أيضاً اختفى يوسف أحمد سالم (المسحراتي) كما اختفى من قبله (الكعمدي).. وما زالت الإذاعة والتفزيون حريصين على اختفاء (المسحراتي) حرصهما على اختفاء كل أغنية دينية ورمضانية وعيدية جميلة وجديدة فمنذ أكثر من ربع قرن أو يزيد ونحن نسمع في رمضان أغنيات قديمة جميلة ترحب به وتودعه لترحب بالعيد، أم أن الفنانين من الجيل الثاني والجيل الحالي أقل موهبة من فناني العصر الذهبي للأغنية اليمنية بعدن، يخيل إليّ أحياناً أن احتفاء (الكعمدي) أحد أسباب تدني مستوى الغناء في عدن خصوصاً واليمن عموماً، ولأن تدني مستوى الغناء ظاهرة عربية، تدنت مستوى الأغنية الدينية والرمضانية والعيدية العربية، فلا تجد الإذاعات والفضائيات العربية سوى إعادة بث القديم منها، ومصر - وهي عاصمة الفن العربي- مازلت أسمع من إذاعاتها وفضائياتها المتلفزة ومنذ بدء رمضان قبل أسبوع أغنيات مثل (هاتوا الفوانيس ياولاد) لمحمد فوزي و(افرحوا يابنات) للثلاثي اللطيف، و(رمضان جانا وفرحنا به) لمحمد عبدالمطلب التي لم تعجب (العيال) فسخروا منها وبها سخروا من أبيهم بشقاوة مبتذلة تجاوزت حد المرح وخفة الدم إلى (قلة الأدب) على الآباء في واحدة من أسوأ المسرحيات المصرية مضموناً وفنياً عنوانها (العيال كبرت) في حين أن أغنية عبدالمطلب هذه مازالت إلى اليوم أغنية رمضانية ناجحة. فهل بين قلة أدب الأبناء على أبيهم في (العيال كبرت) وفي الحياة أيضاً وبين اختفاء (الكعمدي) علافة؟! لا تبدو الإجابة عن هذا السؤال غائبة أو صعبة المنال. وكم أحمد الله أني عشت في زمن (الكعمدي).. ذلك الزمن الجميل.. ولأبنائي ولأبنائكم جميعاً أتمنى الهداية والتوفيق من الله القادر على كل شيء!!

هو المرحوم صالح الكعمدي، آخر مسحراتي في مدينة الشيخ عثمان بعدن، توفي في العام 1990.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى