المجموعة الغنائية «راعي وحطابة» للشاعر الغنائي علي عمر صالح رأت النور بعد طول انتظار

> «الأيام» علي محمد يحيى:

> الشعر الغنائي هو نمط من الأداء اللغوي له خاصيته، وبالذات ما كان منه باللغة العامية، غير ما نجده في الشعر الفصيح غير الغنائي (مع الأخذ بالحيطة ذكر أن الشعر كله موسيقى وغناء).

ولأن العامية في الغناء تكون أكثر اتصالاً وقرباً من السامع وبالأخص عند العامة من الناس فإنها تستطيع بعفويتها وبساطتها وتلقائيتها أن تفجر فيهم كثيراً من الأحاسيس الكامنة في أعماقهم وأن تنقل بمفرداتها البسيطة السهلة أدق المشاعر الإنسانية وأصدقها. والشعراء الغنائيون في نظمهم بهذه اللغة العامية.. إنما يترجمون بها تجاربهم في الحياة ومواقفهم منها، واستشرافاتهم لها يعبّرون بها من خلال القصيدة عما يشغلهم ويثقل أفئدتهم، فيتخففون بها منها ويروحون بها عن ما أصاب نفوس الآخرين. حالهم في ذلك حال كل المبدعين، يستبصرون ما يصنعون، رؤية وأداءً وكذلك موقفاً ونسيجاً، إلى جانب أنها يمكن أن تحمل في طياتها الكثير من الحكم والأمثال . كل ذلك استطعت أن أستخلصه من المجموعة الغنائية الشعرية الموسومة بـ(راعي وحطابة) وهي الأولى للشاعر الغنائي الشعبي المبدع الأستاذ علي عمر صالح- أطال الله عمره ومتعه بموفور الصحة والعافية، التي أهداني نسخة منها موقعه بكلمات رقيقات صادقات برقة وصدق مشاعره.. فحمدت الله كثيراً كما فعل غيري من محبيه وأصدقائه وأوفيائه والمعجبين بإبداعه، بأننا قد رأينا أخيراً باكورة مجموعات أستاذنا وشاعرنا الجميل الودود الخلوق صاحب الحيوية والروح الطيبة المرحلة- أبو عمر - الغنائية.

عند تصفحي لمحتوى هذه المجموعة الغنائية التي تكاد تكون معظم ما نشر فيها قد لحنها أو تغنى بها ألمع فناناتنا وفنانينا، وهم كثر يصعب حصرهم في هذه العجالة، فإنها قد تميزت فيها كل مرحلة من مراحل عمر الشاعر بنفسها الشعري من حيث قوة التعبير عن مشاعره وتدفقها، وكذلك عواطفه من خلال استخدامه لمفرداته العامية التي ميزته عن غيره من شعراء الأغنية إذ جمع فيها بين ما اختزنته من مفردات بئيته الأولى - القرية- التي ولد في أحضانها وتربى وترعرع بين جنباتها، وبين ما اكتسبه لاحقاً في مراحل حياته الاجتماعية والعملية عند انتقاله إلى مدينة عدن واستقر بها.

والتميز هنا هو الفرق بين ألفاظ البيئة الأولى التي نجد في مفرداتها بأنها غير متكررة، وأن ليست لها معان أكثر من المعنى الواحد إلا في الندرة التي اعتمد عليها شاعرنا في بناء قصائده الأولى ونجح فيها إلى الحد الذي أثبت من خلاله قوة الموهبة ورحابة ملكة الإبداع عنده.

أما في مدينة عدن التي أحبها وعشقها بنفس قدر مسقط رأسه واستقر فيها وعاش مرحلة حياته الثانية الممتدة طويلاً بإذنه تعالى فإنه برغم تعدد وتنوع مفردات المدينة العامية التي تغري أي شاعر بالاستفادة من تنوعها وترادفاتها في كتابة أي نص غنائي دون جهد إلا أن شاعرنا لم يأخذ بها كلها حرصاً منه على عدم ترك هوة كبيرة بين ألفاظ ومفردات البيئة الريفية وبين الحضرية، بل أراد أن يمزج بين عاميتين، عامية البيئة التي تربى فيها ونشأ، وعامية المدينة التي استوطنها، فنتج عن ذلك التمازج أن قُبلت عند قدر أكبر ممن استمعوا واستمتعوا بها مغناة من قبل جمع غير قليل من الفنانين في أكثر من محافظة وجلهم في محافظة عدن.

ولا يفوتني أن أذكر بعض انطباعاتي بعد قراءات للكثير مما احتوته المجموعة إذ إنني قد خرجت بنتيجة ملموسة مفادها أن قصائد هذا الشاعر الرقيق، العاطفية قد اتسمت بجزالة اللفظ وتجدد الصور وغزارة العطاء، التقت جميعها لتعبر وتفصح عن صور متعددة الملامح من واقع الحياة لمراحل مختلفة من تجربته الشعرية استحقت قدراً كبيراً من الإعجاب والإجلال والإكبار. وكذلك كان الانطباع عن قصائده الغنائية الوطنية وبلغة خلت من أصوات البنادق والمدافع وطلقات الرصاص إلا من رومانسية وطنية تبقى في الأفئدة، وأزعم أنه في قصائده الوطنية تلك قد انتهج فيها أسلوباً رومانسياً في غزل ملؤه الوجدان والعشق والفرحة والغناء والأمل، مثلما في قصيدة «نسل قحطان» التي يقول في أولها:

كلهم بايحبوك يوم شافوك يشتوك

والنبي ما يمسوك حارسك دوب يقظان

أنت من أصل قحطان

كلهم يحسدونك من حلاوة عيونك

ربنا بايصونك دوب من كل شيطان

أنت من أصل قحطان

ويسترسل في رومانسيته الوطنية إلى أن يقول:

الحلا كلها فيك خاب من قال يشنيك

نحن بالروح نفديك لك إشارة وبرهان

أنت من أصل قحطان

وينتهي إلى:

عدن وصنعاء بلادي منك شربي وزادي

ساكنين في فوادي من نوى العيب غلطان

أنت من أصل قحطان

أما إذا عدنا إلى بيت القصيد في هذه المجموعة وقراءة نصوصها العاطفية فإننا نجدها يغلب عليها العتاب والمشاعر الحزينة التي تعكس مواقف الشاعر المجبلة بالوفاء والصبر على الحبيب فتدفعه أحياناً إلى الهروب من هذه المشاعر والبحث عن ملاذ سكين لنفسه القلقة.. فلم يكن حديث الحب والوجدان وحدهما عنده هو ملاذه الوحيد وإنما كان للشعر أيضاً قسط في التعبير عن ذاته المعذبة حتى أمسى هذا الحديث أو كاد يكون ظاهرة في شعره يفرع فيه شكواه ويبث فيه لواعجه من ما وصل إليه من حب غير مأمول فيدفع بصاحبنا أحياناً إلى أن يبث همومه وحاله لمن حواله ليواسوه ويخففوا عنه وطأة الألم، أو نراه يتخذ لنفسه في القصيدة دوراً مغايراً يتوارى وراءه بشخصيته وليبعد عن نفسه مذلة العاشق فيجعل من نفسه حكماً لا محكوماً حفاظاً على كبريائه كما نجد ذلك واضحاً وجلياً في أغنيته «لا تشتكي من حبيبك»التي يقول في مطلعها:

لا تشتكي من حبيبك

كثر المشاكي مذلة ** مكتوب هذا نصيبك

ياتطرحه يا تشله ** كثر الشكى ما يفيدك

صارح حبيبك وقله ** قله كذا بالصراحة

هذا الزعل ليش كله

وفي سياق الأغنية نجده الحريص على نصح نفسه وهو الحكم عندما يتدارك أزمته مع الحبيب فيسقط حياده مع إصراره على عدم المساس بكبريائه فيقول:

أخاف لاعاد يسيبك

وتندم العمر كله
وبعد ماعاد يفيدك

تفعل معاه مثل فعله
بالعقل راجع حسابك

وكل شيء باتصل له
من قبل تخسر حبيبك

ماحد يفرط بخله
وهكذا فإننا نجد في هذه المجموعة الغنائية نسقاً جميلاً متناغماً من القصائد وحسب وصف الأديب والباحث الكبير مستشار رئيس جامعة عدن الأستاذ عبدالله فاضل فارع في توصيته، أنها إذا ما طبعت لملاقية إقبالاً لدى متذوقي غناء هذا اليوم الراهن، لما فيها من فذاذة البساطة، وأن كثير منها قد سار في مجتمع الغناء والطرب وأخـرى يتوقع لها الرواج مثل التي سبق منها.

فأهلاً بباكورة المنشور من تراث هذا الشاعر الجميل وإن كانت قد تأخرت كثيراً.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى