قصة قصيرة بعنوان (سلمى)

> «الأيام» مختار مقطري:

>
مختار مقطري
مختار مقطري
قبل أربع سنوات، ظهرت سلمى فجاة في (حافة الهاشمي) وفي فجر يوم خائف وجدوا جثتها ملقاة في (حوش العثماني).. مقتلها فجّر أسئلة كثيرة لم يفجرها ظهورها المفاجئ في (الشيخ عثمان)، كانت تقف على الرصيف، امتد شعرها أسفل كتفيها لا تحركه نسمة كشعر جوزة هند ميتة، وثوبها الذي لا يكاد يلامس ركبتيها تلاشى لونه الأصلي وهتكته رقع متقاربة بأشكال هندسية مختلفة، قدماها حافيتان، وتحت أظفار أناملها الطويلة كتل من تراب أسود. وبين عينيها وبين خديها لمح صلاح التام في ذلك الصباح ظلالاً محترقة، فطال تحديقه بها وقد ظن أنها جنية طفلة كان لها بيت في قاع (بير الهاشمي.

أما فتحي هرور فلم ينتبه لوجودها المفاجئ إلا حين بدأت تطلق صرخات خرساء وتنتحب نحيباً مراً، وعلى وجهها الصغير تراءى له ذعر مذبوح وكثافة قهر، وقد بدأت تلوّح بيدها اليمنى بإلحاح تستعطف أولئك الذين زحفوا إلى مسجد (الهاشمي) ليدكوا جدرانه ويسووا قبّته بالأرض.

لكن علي عكبور لم ينزل ليرى عن قرب قبر (الهاشمي) المفجوع، واكتفى بمتابعة الموقف من نافذة شقته التي يعيش فيها وحيداً في الدور الأخير لعمارة عالية تشمخ في (الشارع الخلفي) مواجهة لمسجد النور.. وحين هدأ الموقف المتوتر وتفرقت الجموع لمح سلمى وهي تحث خطاها الواثقة وقد دنت من باب (البغدة) الكبير، فلم يكترث، ولم يسأل من تكون، وهو الحريص على السؤال عن كل سكان المدينة ومعرفة كل ما تخبئه الرؤوس وتضيق به الصدور.

وانتهى ناصر السيد من مشاهدة الفيلم الخليع الثالث بجهاز (الفيديو)، فغادر منزله المدفون في شارع قريب من مكتب البريد.. وحين جاوز مركز الشرطة بقليل رأى سلمى تخرج من (الشارع الخلفي) وتلف يساراً لتمضي نحو (جولة القاهرة) فأثارته خطاها الواثقة على بؤس حالها وطفولتها المعذبة، لكنه سرعان ما تخلص من اهتمامه الطارئ بها، ولم يسأل بعد ذلك من أين تأكل أو أين تبيت خلال الأربع سنوات التي قضتها سلمى متسكعة في شارع (السلفي)، تطوف في الصباح حول (جولة القاهرة) أربع مرات ثم تحث خطاها الواثقة نحو (جولة السيلة) تطوف حولها أيضاً أربع مرات، أما في العصر فتجلس فوق (الفوت بات) مواجهة لمسجد (العيدروس)، هادئة محدقة بمنارته اليمنى، وفجأة يكسو وجهها ذعر مذبوح وتبدأ بالنحيب.

وفي ظهيرة ذلك اليوم الخائف كان صلاح التام يقول لمرتادي (مقهى الشجرة):

- قتلها عفريت من الجن كي لا تبوح للبشر بالأسرار، فاحرصوا على النوافل ينجيكم الله من شر الجان.

فصاح فتحي هرور بسؤال معارض:

- كيف ذلك وقد كانت خرساء.. وصماء كذلك؟! ولأمر ما سميناها سلمى.

فتنهد علي عكبور ثم قال:

- لو علمت من قبل بنهايتها هذه لاهتممت بأمرها.

وكان ناصر السيد يسرح، ثم قال فجأة:

- هل لاحظتم كيف تبرعمت في جسدها الأنوثة في الأشهر الأخيرة من حياتها؟!

وملوا من الحديث عنها فتواصوا بأن ينسوها، واتفقوا أن يلتقوا جميعاً في (مقهى الشجرة) في يوم مقتلها بعد مرور عام، وسرعان ما نسوها ونسوا اتفاقهم، ولكن يوم مقتلها عاد بعد مرور عام، وفي صباحه الخائف زحف سكان مدينة (الشيخ عثمان) نحو (حوش العثماني) ليروا بأم أعينهم شجرة عجوزاً كانت تذرف الدموع وهي واقفة. سبتمبر 2006

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى