وطن ينفي أبناءه (1-2)

> أحمد عمر بن فريد:

>
أحمد عمر بن فريد
أحمد عمر بن فريد
حينما كثر الحديث حول قضية (القاضي) مذيب البابكري، وهي المسألة التي شكلت دلالة أصيلة يعتمد عليها جهة رصد الخلل الكامن في بنية النظام وكيفية تعامله مع أبنائه من منطلق الثواب والعقاب، وهو حالة مقلوبة بامتياز في قضية البابكري، عوقب فيها (المصيب) بغرض (التأديب) وترك فيها (المذنب) بهدف (التشجيع) ... عملت جاهدا على لقاء هذا القاضي الشجاع والتعرف عليه والحديث معه، وقد كان لي ما أردت حينما التقيت الرجل ذات مساء جميل في مدينة عدن عقب صلاة المغرب بجانب أحد المساجد القديمة .

تحدثت معه حول القضية من مختلف زواياها وأبعادها المتعددة، وبدا لي بوضوح إنني أتحدث إلى شخصية (مسلمة) بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى .. فقد كان يتحدث ببساطة وتلقائية وبمهنية صرفة بعيدا عن الخلط في الأمور وبعيدا عن (شخصنة القضايا) .. كما أنه لم يكن من ذلك النوع الذي تستشف من حديثه بعدا سياسيا ما جهة الحدث الذي حكم فيه ذلك الحكم المثير للإعجاب .. كان يتحدث حول صفات القاضي النزيه كما أمر به الله سبحانه وتعالى، وكما حث عليه سيد الخلق أجمعين نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام ... قال إنني أخاف الله كثيرا، ولا أود أن أخالف تعاليم نبيي الكريم الذي حثني على إظهار الحق وإزهاق الباطل، أياً كان مصدره وأياً كانت خلفيته وسلطاته. وأضاف أن نبينا محمد قد حذرنا من زمن (بائس) نحاكم فيه (الضعيف) إن اخطأ، ونغفر فيه عن (القوي) إن أجرم ... وهو زمن نعيشه حاليا بكل تفاصيله وصوره بلا أدنى شك بحسب كلامه.

كان حذرا من الصحافة ومن السياسة، ولولا ثقته فيّ لما أفصح عما في جوارحه من شعور بالغبن والضيم والحسرة والألم عن حال القضاء وما وصل إليه، والذي بلغت ذروة التدخل في شئونه وضعفه في قضيته وحالته تحديدا، وذلك حينما تدخل (النفوذ والسلطان) وأمر السلطة القضائية بما يريد ويشتهي .. فكان أن ترك القضاء جميع سلطاته الهامة ملقاة على قارعة الطريق بلا راع وبلا حسيب .. والانكى من كل ذلك أنه وبما فعل، قد خلع عنه جلباب (الإسلام) وقرر أن يرتدي أي رداء مستعاراً آخر .. إلا رداء الإسلام الذي أصر البابكري على عدم خلعه والتمسك به .. ومن هنا كان وسيظل ضياعنا كعرب وكمسلمين ككل .

أنقل هذا وأكتب عنه .. لأنني تلقيت مؤخرا، رسالة (معايدة) من قاضينا (المسلم) عبر هاتفي الجوال يدل رقمها عن تخطيها لحدود دولة عربية مجاورة، قرر (البابكري) أن يلجا إليها طالبا راحة البال وهروبا من وضع عام لا يجد فيه نفسه، ولا يمكن أن يحقق لضميره (الصاحي) تلك الراحة والطمأنينة والأمان الذي ينشده.. وهو الأمان الذي يشعره براحة الضمير وسلامة القلب ، ليس في الدنيا فحسب ، وإنما في الآخرة بحسب ما يراه صاحبنا ونراه معه بكل تأكيد .

اذا .. يمكن القول إن مختلف الظروف المحيطة بعمل القاضي قد (نفته) من موطنه قبل ان تنفيه من وظيفته البالغة الأهمية، كما ان حكمه (الصارم) القوي، الذي لم يرق لمراكز النفوذ ولم يعترفوا به، قد دفع بهم الى حث (زملائه) على تشكيل مجلس قضائي تأديبي .. وحينما (خرج) البابكري من بلاده، قرر (الراسخون في الفساد) طي الملف نهائيا .. على اعتبار أن رائحة (النتانة) التي انبعثت منه، كان يمكنها أن تصل الى حد لا يطاق وأن تتجاوز الحدود الوطنية الى (الحدود الدولية) المعنية والمهتمة بأمر اليمن، وذلك في حال أن صدر بحقه ذلك (الحكم الجائر) الذي كان يخطط ويدبر له .. ومن هنا يمكن القول إن ظروف (المانحين) قد ساهمت في نجاة (البابكري) .. وإن (فساد الفاسدين) أرسخ بكثير في هذا الوطن، من نزاهة القاضي مذيب !!

وتبقى المفارقة الكبيرة والعجيبة .. أنه وفي حين لم ينفذ حكم القاضي النزيه .. بل عمل على محاكمته (للتأديب) كان هناك حكم آخر قد نفذ بصرامة وعنف قبل أقل من أسبوعين فقط بحق (مواطنة) وحيدة في مديرية التواهي بعدن، حينما جاء إليها (المنفذون) كفرقة كبيرة متعددة المهام .. بمن فيهم (الشرطة النسائية) التي استخدمت حتى أساليب (العض) لإخراج المسكينة من منزلها (مصدر سترها وكرامتها) في وضح النهار .. فكان أن (أخرجت) من بيتها الصغير ..سحبا وجرا ودفعا إلى أقرب رصيف مجاور بلا خجل وبلا مراعاة لحرمة السيدة و كرامتها .. وكان أن نفذ الحكم بسرعة قياسية لم تشفع للسيدة حتى بارتداء عبايتها!!

حقا إننا نعيش الزمن الذي حذرنا منه رسولنا الكريم .. وحقا لقد صدق قاضينا الكريم بأننا نعيش تفاصيله الآن .. فها هو الحكم ينفذ بحق تلك (الضعيفة المسكينة) وبالقوة، وها هو حكم البابكري بحق (الأقوياء) يذهب أدراج الرياح .. وبعد كل ذلك .. ترى متى؟ ومن أي بوابة سيكون لنا رجاء في خالقنا بعوننا وإنقاذنا مما نحن فيه إذا لم نساعد أنفسنا أولا .. بأن نكون مجرد (مسلمين) لا أقل ولا أكثر .

[email protected]

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى