الفساد، هذا الأخطبوط العالمي.. الكارثي!

> أديب قاسم:

>
أديب قاسم
أديب قاسم
إن من أهم ركائز البحث في تطوير الفكر الرأسمالي الحديث، النظر إلى ظاهرة الفساد باعتبارها كارثة إنسانية وليست طبيعية في سياق هذا التطور، إذ يجري تساوقها، في الاتجاه المعاكس لبرامج التنمية البشرية، مع المؤشرات (اللا أخلاقية) التي تنبئ بسقوط الحضارة.

إنها بالتفسير البسيط تجري بحسابات عكسية لاتجاه الصراع والتنافس من أجل المال في أوروبا قبل قرن من الزمان، حيث لا ينحصر الصراع في الأوساط الأكثر نفوذا، مثلما هو الحال في أمريكا التي تقود العالم اليوم عن طريق الهيمنة، واحتكار السوق الدولي، وفرض إرادتها على سائر الأنظمة بالتبعية لعجلة الاقتصاد الأمريكي. ذلك أنه وكما رأى برتراند رسل منذ وقت غير بعيد، لا حساب فيه يذكر ، أو دوراً في الحياة القومية (للخدمات) التي يؤديها الفرد بقدر ما يحسب الحساب ويقام الوزن للمال الذي جمعه هذا الفرد من خدماته حيث المال هو كل شيء، فلا يعبأون بأي نوع من التربية خلو من القيمة المادية.

ويعبر رسل عن ذلك بهذا المحك الثقافي فيقول: «كان من مظاهر (الوجيه) في القرن الثامن عشر أن يسرف في تذوق الأدب، والصور، والموسيقى، ولكنا اليوم لا نرى هذا الرأي، بل إن الغني في أيامنا لا يكون مثقفاً في أكثر الأحيان».

وهذا الاتجاه يعكس اليوم حال الرأسمالية العالمية وأخطبوطها الذي امتد إلى اقتصاديات الدول الفقيرة ليصبغ أنظمتها بلونها من التنحي عن الخدمات الموجهة لأهداف قومية بما يخدم بناء الإنسان وفقاً لحاجات التنمية البشرية المتجه صوب مرافئ إنسانية لا تقوم إلا على ركائز أخلاقية كالثقافة بصدد البحث عن منافذ جديدة للحضارة. فالذي يجري الآن هو تغليب دور المصلحة فوق جميع الاعتبارات وهو ما عبر عنه سياسي غربي بقوله:

(The cunning minister or charlatan,neither sees,nor is concerned to see, any further than his personal interest, the support of his adminstration requires) .üü

«الوزير الماكرأو السياسي الدجال، لا يرى ولا يهمه أن يرى أبعد مما تتطلبه مصلحته الشخصية، أي تأييد الشعب لحكمه».

وغالباً ما تقفى هذه العبارة حيث يجرى تغليف تلك المصلحة.. بالقول:

(..by all the low artifice,with out the least humanity) .

أي «من طريق التحايل الحقير، دون أدني حد من الشفقة، أو شعور إنساني». من هنا تفاقم الفساد ليتحول إلى كارثة إنسانية شملت معظم النظم ومنها النظم العربية التي شرعت في البدء تفتش داخل الروح الوطنية عن مشروع حضاري، ثم إذا بها في هذا العصر، عصر العولمة الخاضعة لعجلة التطور الرأسمالي تنحرف عن مجمل هذا السياق التاريخي لتطورها.

نستطيع التعليق في هذا السياق على طبيعة هذا الانحراف الذي أدى بالفساد إلى أن يغدو كارثة إنسانية شملت مجتمعنا العربي، بأننا لم نعد نجد الإنسان (الوزير، النائب، الموظف الكبير وحتى الصغير) الشريف، الذي تمر أموال الناس بين أصابعه دون أن (تلونها) المناصب ذات المهام (الناعمة) والثراء العريض- وهذا تعبير لكاتب غربي حديث جعل ينظر إلى ما يجري في مراكز النفوذ من (فساد) كارثي من خلال ما نهض به (مصطفى كمال أتاتورك) خالق تركيا الحديثة بعد إعلان الجمهورية إذ قام بتشكيل (محاكم الاستقلال) وشرع في البدء بإلغاء حصانة النواب من الاعتقال، ولينهض بالمهمة الكبرى مهمة تغيير عقلية الشعب بأسره، تغيير أفكار الناس القديمة وعاداتهم وأزيائهم وأساليب حياتهم!.. ويراها مهمة أصعب من بناء الكيان السياسي للدولة، حيث كان سلطان تركيا - على حد تعبير الكاتب الغربي - أخطبوطا للفساد ذا أربعة ألف وجه، وكان موظفو الحكومة الآخرون أنذالاً مرتشين يتخذون من التظاهر بالتقوى والتدين ستاراً يخفي فسادهم وتلوث أيديهم. وقد عمل أتاتورك بروح المستبد المصلح لبناء تركيا المتمدينة الحديثة!.. وكان من رأيه وجوب اعتناق اتجاهات المدنية (الدولية) سواء في المظهر أو التفكيرüüü.

وحتى لا يلتبس الأمر علينا في معنى المدنية (الدولية) مع الاتجاهات الحديثة التي يضرب فيها الفساد وقد استشرى في العالم، نشير إلى أن عهد أتاتورك كان قريباً من فترة ازدهار النظم الديمقراطية في أوروبا والغرب، قبل أن تنهار القيم والمثل في وحل المادية التي نشهدها في ظل هذه التحولات والمتغيرات الدولية التي أغرقت العالم تحت هيمنة الأحادية القطبية، واستفحال الشركات المتعددة الجنسية التي تحكمها أقلية في عالمنا المعاصر، وتسعى في مضارباتها للكفاح من أجل النجاح في السوق لاعتلاء عروش المال، لا النجاح في الحياة.. لبناء المجتمع الإنساني النموذجي نحو قيام حكومة عالمية كما تدعي هذه القوى من خلال: (نشر الأوراق الديمقراطية) .

الهوامش:

انظر في مؤلف برتراند رسل (غزو السعادة)

The conquest of HAPPINESS Bertran Russell.

From,Idea of patriot King-by

Henry st.John, Viscount Bolingbroke.

على أننا ونحن نشهد له بتلك الخطوة التاريخية الشبيهة بالطفرة في التحديث واجتثاث الفساد والتخلف من خلال إعادة هيكلة النظام الاجتماعي وإرساء دعائم النهضة، لنا موقف في التحفظ حيال الشكل السياسي الذي جعل يصب في الاتجاه العلماني للدولة من ملاحاته للعنصر الثقافي التاريخي في مجتمع ركيزته الإسلام، وذلك بما يتعدى حدود النزعة التوفيقية التي تسير بمنهج التثاقف لتحقيق التقارب مع الغرب.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى