الأستاذ محمد مجذوب علي أفلت من قبضة حبنا .. ورحل

> «الأيام» د. هشام محسن السقاف:

> لا يأفل نجم المبدعين وإن أفل حسيا، فهناك من الشواهد الدالة ما يوحي بمبتكرات للحس تنطلق من المكنونات الروحية، الوجدانية والعاطفية، التي يأنس بها المرء على طول وعرض رحلة الفراق القسرية.

وغير أنه مبدع ورجل تربوي بصمته لا تفارق انطباعات جيلين من المتعلمين في عدن، فهو أحد أبرز (السومانيين) الكبار الذين مدوا جسور التواصل من على ضفاف النيل في أم درمان والخرطوم إلى عدن العروس المتألقة على سواحل بحر العرب والمحيط الهندي.

إنه محمد مجذوب علي الذي أفرد شراع الترحال منذ العام 1960م عام تخرجه ليحط عصاه في عدن، وعدن هي الحاضنة الرؤوم حيث يجد الإنسان فيها معنى (للتعدن) - التمدن والتماهي في نسيجها الاجتماعي دونما صعوبة، فأصبح مجذوب المتعدد المواهب واحدا من مفردات التعليم في عدن، وواحدا من المساهمين بجدارة في الحياة الثقافية، وربما يتسنى للباحث في ثنايا أرشيف «الأيام» على عهد مؤسسها الأستاذ محمد علي باشراحيل رحمه الله أن يجد شذرات من عبق هذا (السوماني) مقالات ينثرها - أو ربما ينثها- زفرات في سماوات عدن الستينات.. وهو بهذه السمات، الصفات والخصال يشبه سومانيا آخر جعل من (عدن - الخرطوم) الجسر ذاته الذي يتمدد من الروح إلى الروح بمعطيات الحب الجارف، السمة الأصيلة في السوداني - اليمني، لينحت مصطلح المحبة (سومانية - السودان اليمن) في صدورنا وقلوبنا التي تتشرب الهوى المتبادل نقيا من منابعه في أدغال الغابة ومن سريان النيل بتؤدة الشيخ الوقور، أو حيث تمور المشاعر والأهواء الأصيلة في بحر حقات وصيرة، وليغدو (مبارك حسن خليفة) هو الآخر صاحب أشهر المسميات في سماء العلاقات اليمنية السودانية: شيخ السومانيين دون منازع، وكأنه يتعاطى مع مجذوب عهود الوفاء بالإبقاء على أريج هذا التواصل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

يقول الشاعر محمد مجذوب علي في ديوانه (قمري..والمد والجزر):

من ماء (نهر النيل) جئت مهاجرا

وعلى ذرى شمسان مرسى رحالي

عاشرت شعبا فيه طيبة موطني

الوالدان هنا، وعطف الخال

قاسمته حلو الحياة ومرها

حالي كحاله، حاله من حالي

ولد محمد مجذوب علي في السودان الشقيق، وأنهي دراسته الأولى فيه، بينما أنهى الدراسة الجامعية في مصر الحبيبة وعمل بمدارس الشطر الجنوبي من الوطن منذ تخرجه في عام 1960م، نال العديد من الميداليات والشهادات التقديرية والألقاب العلمية إزاء مساهمته العلمية والتربوية والثقافية في بلادنا، درّس مادة اللغة العربية في ثانوية محمد عبده غانم، بخورمكسر وهو شاعر معني باللغة العربية لكنه لا يذهب في ذلك حد التكلف عند نظمه الشعر بل يترك للسجية مداها، فتسمعه يقول بتلقائية:

ليتني أنساك.. لكن

كيف أنسى؟؟

ما الذي أنساه حقا؟؟

ذكريات الأمس

حبك

أسعد الأيام في قربك

طيفك

ما الذي أنساه؟؟

هجرانك، جرحك

ما الذي أنساه؟ لكن!

إن نسيت!

ما الذي يبقى لكي أذكره؟

وحياتي أجدبت بعدك

يا أغلى مطر!

كان شاهدي على الانتقال للعيش في خورمكسر لدى أصدقاء كثر هو منزل أو شقة الأستاذ محمد مجذوب الواقعة أسفل شقتي مباشرة في العمارة نفسها.. كان ذلك في مطلع العام 2000م تقريبا، وكان كافيا أن أشير إلى منزل المجذوب لكي يحدد المرء مكان شقتي.

واكتشفت في الحي أن للرجل المعلم وأسرته حضور واسع في أوساط الجيران والجالية السودانية بعدن لكنني في اللحظة التي حللت فيها في سكني الجديد كان الأستاذ المجذوب يغادر إلى صنعاء وظلت شقته (بالإيجار طبعا) بانتظار عودته لأقتنص (سومانيا) صديقا أنا الذي قد عايشت طباع أبناء الجنوب والشمال السوداني واندمجت في مسوح تعاملاتهم النقية أثناء الدراسة الجامعية بموسكو وكم كان التشابه بيننا كيمنيين وسودانيين فاقعا كلون بقرة بني إسرائيل، ولا أريد أن أقول (حتى في الكسل).

لقد خاب ظني في اقتناص ذلك السوماني عندما رأيت أغراضه تنقل من المنزل ثم انقطعت عنا أخباره إلا ما يأتينا بها شيخ السومانيين الشاعر الكبير مبارك حسن الخليفة صاحب القلب الكبير والعظيم وكان أسوأ هذه الأخبار نعي الأستاذ محمد مجذوب علي في الخرطوم يوم 20/3/2007م.

مات وقلبه يخفق بحب اليمن والسودان سواء بسواء.

رحمه الله وأسكنه فسيح جناته وألهم أهله وذويه الصبر والسلوان.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى