بمناسبة المولد النوبي والشريف .. المحجة المحمدية البيضاء

> علي بن عبدالله الضمبري:

>
يقول نبينا الأعظم صلى الله عليه وسلم : «تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك»، وفي حديث آخر : «لقد جئتكم بها بيضاء نقية» ، ومعنى (المحجة) في اللغة : الطريق القويم .

حينما نحتفي ونحتفل بذكرى الميلاد النبوي الأغر فإننا نعلم - علم اليقين- أن هذا الإنسان العظيم {رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة * فيها كتب قيمة} البينة 2-3، وهذه الكتب القيمة تجسد مبادئ وقيماً وسلوكيات وأخلاقاً وشرائع وشعائر وأحكاماً وعبادات تضمنها وبشر بها ودعا إليها هذا القرآن الذي أنزله الله {ولم يجعل له عوجاً* قيماً لينذر بأساً شديداً من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً حسناً* ماكثين فيه أبداً} الكهف1-2-3 .. وقد تمثل النبي الأعظم كل تلك المبادئ القرآنية فعقد عليها عقيدته، وسلك بها في سلوكه، وتأدب بها في آدابه، وحكم بها في أقضيته، وتخلق بها في أخلاقه حتى «كان خلقه القرآن» كما قالت أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها فاستحق أن يمدحه ربه بقوله {وإنك لعلى خلق عظيم} القلم 4 .

خفض الجناح
قال تعالى {واخفض جناحك للمؤمنين } الحجر 88 .. والآية 215 من سورة الشعراء {واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين} .. وهذا الأمر الإلهي الموجه للنبي الأعظم صلى الله عليه وسلم يشبه التوجيه الذي أسداه القرآن للأبناء في معاملتهم للوالدين فقال {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة} الإسراء 24 .. ولو نظرنا إلى هذا الموقف البديع البليغ في حسن المعاملة، وجميل العفو، ورقة التجاوز، وروعة الحوار، وعمق الصبر، وصدق الإخلاص، والحرص على استنقاذ الآخرين من نار جهنم بتأليف قلوبهم، وتأليب جمعهم.. لوجدنا أننا بعيدون تماماً عن هذه المحجة المحمدية في التعامل مع الآخرين من أقرباء الأحباء، أو أشداء الأعداء الألداء .. فقد جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستعينه ويطلب منه، فأعطاه رسول الله شيئاً وقال له : هل أحسنت إليك؟ فقال الأعرابي : لا ، ولا أجملت .. فغضب بعض المسلمين وهمّوا أن يقوموا إليه !! فأشار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كفّوا .. فلما قام رسول الله وبلغ منزله دعا الأعرابي إليه في بيته فقال له : إنما جئتنا تسألنا فأعطيناك فقلت ما قلت ، فزاده في العطاء وأحسن إليه وقال له : هل أحسنت إليك؟ فقال الأعرابي: نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً ، فقال له النبي : إنك جئتنا فسألتنا فأعطيناك فقلت ما قلت ، وفي نفس أصحابي عليك من ذلك شيء، فإذا جئت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب عن صدورهم، فلما جاء الأعرابي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن صاحبكم قد جاءنا فسألنا، فأعطيناه فقال ما قال، وإنا قد دعوناه فأعطيناه فزعم أنه رضي، كذا يا أعرابي ؟! فقال الأعرابي : نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً.. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة فشردت عليه فتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفوراً. فقال صاحب الناقة : خلوا بيني وبين ناقتي، فأنا أرفق بها وأنا أعلم بها، فتوجه إليها وأخذ من نبات الأرض، ودعاها حتى استجابت وشد عليها رحلها، وإني لو أطعتكم حيث قال ما قال الأعرابي لدخل النار».

أليس في هذا الحديث العظيم ما يدفعنا إلى التذكير بقيم العفو والتسامح والقبول بالآخر، وإصلاح العيوب والأخطاء، والتغاضي عن الهفوات والزلات، والستر على العورات والسوءات، والمغفرة لأهل المروءات ؟ {قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله} الجاثية 14 .. وهذه دعوة قرآنية محمدية يجب أن نمارسها سلوكاً حياً دائماً دائباً مع كل المسلمين على اختلاف مذاهبهم وفئاتهم وطوائفهم طالما جمعتنا كلمة التوحيد، وقبلة الصلاة، وروح الأخوة، وشعور الأسرة حتى (مقبرة الموت).

أليس من خالفنا جديراً بنصيحة طيبة كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يبايعون عليها «والنصح لكل مسلم» كما في حديث جرير بن عبدالله البجلي؟

أليس من «شهد شهادتنا، وصلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا»، مسلما بنص شهادة الصادق الأمين صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله الطاهرين؟!

أليس من واجبنا أن نكون في موقف {أذلة على المؤمنين} المائدة45 لأننا بحاجة إلى أن نقتدي بمن وصفه الله بأنه {حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم}؟! التوبة 28.

أليس من حق كل مسلم علينا أن ندعوه بالحكمة والموعظة الحسنة، لننقذه - بإذن الله- من النار، بدلاً من أن نصمه بالكفر والبدعة والضلالة والفسوق فنرميه في النار قبل أن يحكم عليه ربه الملك العليم الجبار؟!

أليس من حقوق المسلمين علينا أن نوضح ونبين معالم المحجة المحمدية البيضاء النقية الخالية من كل حقد وحسد، وغل وغش، وعتو وعلو وغلو وهمز ولمز وغمز، وشحناء وبغضاء، ليكون شعار كل مسلم منا «أبيت وليس في قلبي غل على امرئ مسلم» كمال قال ذلك الصحابي الذي شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بدخول الجنة وهو حي يرزق لم يمت؟!

إشاعة الرفق وإفشاء السلام
قال الله تعالى {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً} النساء 94 . وعند البخاري من حديث عائشة رضى الله عنها، أن نفراً من اليهود دخلوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا له: السام عليكم (السام معناها الموت) فغضبت عائشة وقالت في غيظ وحنق: وعليكم السام ولعنة الله . فقال لها النبي الحليم الحكيم صاحب الخلق العظيم: مهلاً يا عائشة، عليك بالرفق فإن الرفق ما دخل في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه..! إن هذا الحديث يعلمنا منهجاً من مناهج المحجة المحمدية التي تعطينا منهلاً من مناهل المحبة، ألم يقل النبي الأعظم «ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟! أفشوا السلام بينكم».

أليس (إفشاء السلام) بين المسلمين الآن يكاد يكون شبه معدوم لأن أتباع كل جماعة، أو أشياع أي شيخ، أو أعضاء كل فرقة، أو رعايا كل طائفة أو مذهب أو حزب أو تيار أو جناح (تعددت الأسماء والحقد واحد) كل هؤلاء وأولئك قد عاشوا في جزر منعزلة متباعدة متباغضة، وقد أغلق كل فريق موانئه وشواطئه على نفسه، وعاش حبيساً في (قمقم) متبوعيه الذين حولوه من (كيّس فطن) بنص الحديث إلى (كيس قطن) محشو بالتقليد الخبيث والأمعية الذيلية الذليلة فأعرض عن الآيات القرآنية التي تقول {واذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها} النساء 86 ، فرفض إلقاء السلام على المؤمنين الذين قال نبيهم المسالم صلى الله عليه وآله وسلم :«ألق السلام على من عرفت وعلى من لم تعرف».. وخضع لقول المتبوع الذي تحول إلى (طاغوت) يطاع من دون الله، وينفذ أمره قبل أمر رسول الله.. أو يتعامل التابع مع المسلمين الذين يختلفون معه في رأي معين بفظاظة طبع وغلظة سلوك ووحشية تصرف وهجر وإقصاء وتهميش وإساءة معاملة وبذاءة قول ، ورداءة فهم وسوء ظن ووهم يذهب به مسافات بعيدة عن (الرفق) الذي يزين ولا يشين، ويصيب ولا يخيب، ويعمر ولا يدمر، ويحب ولا يكره، ويرحم ولا يرجم، وينفع ولا يضر، ويقارب ولا يحارب، ويهتدي ولا يعتدي، ويعدل ولا يظلم.

إن المحجة المحمدية البيضاء التي زاغ عنها هالكون كثيرون تعلمنا قول حبيبنا الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال:«إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على سواه. وهذا يقتضي على الدعاة والمرشدين والخطباء والعلماء والإعلاميين أن يشيعوا ثقافة السلم الاجتماعي، والرفق التعاملي، وإفشاء سلوكيات «خيرهما الذي يبدأ بالسلام» ونشر تصرفات «عليكم بالرفق» وتعميق حقيق «المسلم أخو المسلم» وتعميم شعار «لا يؤمن أحدكم حتى يحب».

إن دعاة الفتنة والتفرقة والتشرذم والتعصب قد زاغوا عن المحجة البيضاء {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} الصف 5.. ودخلوا في دهاليز المحنة السوداء التي ولدت أتباعاً وأشياعاً ركزوا على شكليات الإسلام الظاهرة، وأغفلوا جواهره الباهرة، وتنازعوا واختلفوا وذهب ريحهم وأصبحوا غثاء كغثاء السيل فنزع الله المهابة لهم من قلوب أعدائهم الذين صاروا يهددون (المسجد الأقصى) وهم يتساءلون: كيف ومتى يهدمون (القبة الخضراء) لأنها بدعة وشرك !!

لنتذكر صاحب المحجة البيضاء الذي قال «ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية».. والذي قال «من رفع علينا السلاح فليس منا» ولنقل لهؤلاء جميعاً: ارفعوا السلاح في وجه الصهيونية العالمية، والاستكبار الظالم، والجهل المستشري، والجوع القادم، والخوف الجاثم والظلم الآثم.

اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعترته وارزقنا السير على محجته، ووفقنا لإحياء سنته، والذب عن ملته، والسعي لتحكيم شريعته، والحب له ولأمته، ومتعنا في الدنيا برؤيته وفي الآخرة بصحبته آمين.

مدرس في كلية التربية جامعة عدن

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى