السفر إلى القاهرة للمراجعة

> محمد فارع الشيباني:

>
محمد فارع الشيباني
محمد فارع الشيباني
لقد كانت النكتة السياسية ومازالت سلاح الشعوب المضطهدة في التعبير عن نفسها وخاصة عندما لا تستطيع وتعجز عن تغيير الواقع المؤلم الذي تعيشه فتلجأ تلك الشعوب إلى النكتة التي تزدهر، وترى الناس يتبادلون آخر النكات التي ظهرت، وكان الرئيس جمال عبدالناصر رحمه الله، يتابع النكت بشكل يومي ليعرف ما يفكر به الشعب وماذا يقولون عنه، ويقال (والعهدة على الأستاذ هيكل) أنه قال لمخابراته: «أريد أن أسمع سقوط إبرة في ميدان التحرير» وعادة ما تزدهر النكتة في المجتمعات المدنية، لأن سكان المدن هم أناس مسالمون، أما فى الأرياف والمناطق القبلية فإن الذي يسود لغة الرصاص، ويسعى الناس فيها لحل مشاكلهم بطرق أخرى تحت إشراف أو مساعدة شيوخ القبائل.

وعدن كمدينة ازدهرت فيها النكتة السياسية بشكل كبير بعد حرب 1994م وأصبحت النكت تظهر فيها بشكل أصبح من الصعب متابعتها كلها من كثرتها وقد استغلت النكتة السياسية جميع الأحداث وكل شيء جديد ظالم طرأ على حياة سكان عدن حتى استغلت النكتة كمبيوتر التليفونات الذي يرد على المتصلين عند انشغال التليفون المطلوب وهي عبارة «يرجى الاتصال من جديد» وأشياء أخرى كثيرة مثل نهب البقع، وبناء الأسوار الضخمة حول المنازل، وهي ظاهرة لم تعرفها عدن كمدينة سلام لم تتعود على المنازل التي تشبه القلاع المحصنة مثلما كان يحصل في القرون الوسطى، حتى البحر لم يسلم من النكتة، وجاءت نكتة تتحدث عن ردم البحر وبيعه بقعاً بمبالغ خيالية، وأشهر نكت البحر تلك التي تقول إنهم سوف يردمون البحر من عدن إلى جبيوتي وبيعه بقعاً، وأتمنى أن يأتي يوم أستطيع فيه جمع هذه النكت كلها وشرح المناسبة التي قيلت فيها كل نكتة، أو أن يقوم بذلك زميل آخر إذا سمحت له الظروف القيام بذلك.

ولسخرية القدر فقد أصبحت النكتة في عدن هي أحد مصادر كتابة التاريخ عنها، والذي دفعني لكتابة هذه المقالة آخر نكتة سمعتها وهي مع الأسف تعبير صادق عما يجري في عدن وإلى أي حد بلغت معاناة سكانها، تقول النكتة:«إن صديقا يقول لصديقه أريد أن نعمل وحدة مع مصر، فسأله صديقه: ولماذا مع مصر بالذات؟ فقال: لكي يسافر أصحاب صنعاء إلى القاهرة للمراجعة».

هذه النكتة تعبر وبصدق عن معاناة الناس في عدن، فلقد أصبح كل شيء مربوطا بصنعاء، وكل من أراد أن يحل أي مشكلة يقال له «اذهب إلى صنعاء للمراجعة» وأصبح الموضوع نوعا من المآساة المؤلمة، فمن قضية قبول طالب في المدرسة إلى التوظيف إلى المنح الدراسية، كل شيء أصبح مربوطاً بصنعاء.. أكثر هذه الأشياء إيلاماً و بشاعة و يصل إلى مرحلة التعذيب للنفس والجسد هو موضوع المتقاعدين، أي الذين أحيلوا إلى المعاش، فإنهم يلقون عملية تعذيب لا يمكن وصفها لأنه عند الإحالة إلى المعاش يوقف الراتب، وتبدأ رحلة العذاب أو التي يطلقون عليها «المراجعة» وهي كلمة جديدة في قاموس أبناء عدن فمنذ احتلال بريطانيا لعدن إلى حرب 1994م لم يعرف أبناء عدن هذه الكلمة وما تعنيه من أسلوب إداري متخلف، المهم أن المحال إلى المعاش بعد وقف راتبه يظل يتردد على الجهة المعنية في عدن يوما بعد يوم ليتحصل على نفس الجواب «لم تصل التعليمات من صنعاء، لم يصل التعزيز من صنعاء..» وهكذا تمر الأيام والراتب موقف والمحال إلى المعاش يبيع الغالي والنفيس ليصرف على أولاده وقد يجد صديقا يقول له «اذهب إلى صنعاء وتابع قضيتك بنفسك» وإذا ما حدث ذلك وذهب إلى صنعاء فإنه يبدأ عذاب جديد لنفسه، لأنه يظل (يتحرك من عند وردة إلى عند سردة) كما يقول المثل، وفي الأخير عندما يبيع آخر شيء عنده قابل للبيع مثل ساعته الثمينة بأبخس الأسعار يرجع إلى عدن موكلاً أمره وأمر أولاده للخالق الكريم، وتكون المأساة كبيرة عندما نعرف أن عدد المحالين إلى المعاش قد بلغ ثمانين ألفا كما يقال أو ربما يكونون أكثر. ولأجل هذا فإن نكتة السفر إلى القاهرة للمراجعة تكاد تصور حالة مأساوية وتكاد تكون تعبيراً صادقاً عن المعاناة التي يعيشها أبناء عدن، ولكن هناك مشكلة لم تتطرق إليها النكتة كما يعلق صديق لي اشتهر بالسخرية، وهي «هل يقبل أهل القاهرة أن يدخلوا في وحدة مع صنعاء؟ فربما يأتون هم للـمراجعة إلـى صـنـعـاء بدلاً من أن يذهب أصحاب صنعاء للمراجعة إلى القاهرة»!

اللـهـم ارحـم عـدن، اللـهـم ارحم عـبـادك الطـيبـين فيها، آمين يارب العالمين.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى