القبيلة.. المجتمع القبلي.. التحول المدني الديمقراطي
> حسن بن حسينون:
«العرب متنافسون في الرئاسة، وقل أن يسلّم أحد منهم الأمر لغيره، ولو كان أباه أو أخاه أو كبير عشيرته»
المؤرخ ابن خلدون
كثيرة هي الكتابات التي تحدثت عن القبيلة ومجتمعات القبائل العربية وعصبياتها، وعن العلاقات والعادات والتقاليد وصفات الكرم والشهامة وإكرام الضيف واحترام الجار وحماية المستجير ونجدة الملهوف وغير ذلك من العلاقات والموروث الشعبي سلباً وإيجاباً، والتي أصبحت ثقافة سائده تنتقل من جيل لآخر وسط المجتمعات القبلية منذ آلاف السنين.
وبغض النظر عما كتبه المستشرقون عن المجتمعات العربية القبلية أو المدنية وتحامل البعض منهم وأنهم لم يكونوا منصفين أو لهم أهداف معنية إلا أنه من الضروري أن تطرح مثل هذه القضية أو الظاهرة للنقاس، وخاصة فيما يتعلق بسلبياتها التي كتب عنها المستشرقون الذين زاروا اليمن أو عاشوا فيه لفترة من الزمن من أمثال هارولد أنجرامس، أول متشار بريطاني في حضرموت بعد إبرام معاهدة الاستشارة عام 1937م بين الحكومة البريطانية والحكومات المحلية، والذي كانت له بصمات في التعامل مع مختلف قبائل حضرموت وحل العديد من المشاكل والعلاقات القبلية وعاداتها المتخلفة مثل الثأرات القبلية والغزو وقطع الطرق ونهب الممتلكات والقتل العمد.. بالتأكيد لقد عالج مثل تلك الظواهر في حضرموت بسهولة بعد أن وجد الأرض خصبة أمامة في تنفيذ ما يريد بدعم ومساعدة الحكومات المحلية وبعض الشخصيات الاعتبارية من أمثال الرجل الثري والمغامر بوبكر بن شيخ الكاف، الذي يمكن مقارنته بالثائر المغامر، والاثنان يشتركان في أن الواحد منهم له مصالح وأطماع، سبق أن تطرق لها بعض الكتاب والمؤرخين.
من أهم الإجراءات أو المعالجات التي قام بها انجرامس على مستوى الأوضاع القبلية في حضرموت أو المحمية الشرقية لوحدها دون غيرها من المناطق أو المحميات الغربية وذلك لوضع حد نهائي للفوضى وانعدام الأمن والاستقرار، بعد تعيينه وبعد تشكيل قوة جيش البادية الحضرمي الذي مثل أفراده عبارة عن رهينة ينتسب إليه أفراد القبائل الحضرمية التي تجد صعوبة بعد ذلك في القيام بأي تمرد أو عصيان ضد السلطة البريطانية والسلطنتين القعيطية والكثيرية. وبالإضافة إلى ذلك قام انجرامس بعقد اتفاقات هدنة مع جميع قبائل حضرموت مدتها ثلاثة أعوام لوقف الثأرات القبلية، كل قبيلة على حدة، مع الحكومة البريطانية والحكومات المحلية، أي هناك ثلاثة أطراف يوقعون ويلتزمون بهذه الاتفاقيات ومن شروطها: أن أية قبيلة تخرق هذه الهدنة تلتزم الحكومة البريطانية بتأديبها وذلك بدك مناطقها وبيوتها وأملاكها بالطيران الحربي، التزام الجميع بالتنفيذ عدا حالتين حتى رحيل البريطانيين وحتى ما بعد رحيلهم إلى الوقت الحاضر تخللها تمرد قبلي جماعي تزعمته قبيلة بانهم عام 1956 والجامعة عام 1961م فقط.
وبعد فترة من الزمن وبعد أن استتب الأمن والاستقرار في ربوع حضرموت، تخلت قبائل حضرموت عن حمل السلاح، مع أن الاتفاقيات لا تنص على منع حمل السلاح وإنما شريطة وضعه في مراكز الشرطة من قبل حامله قبل أن يدخل المدينة، حتى السلاح الأبيض استغنوا عن حمله لأنه لا يوجد داعي لذلك.
هذه الظاهرة الحضارية فريدة من نوعها لم تحدث في أي مجتمع من المجتمعات القبلية وأدت إلى أن تحول المجتمع القبلي في حضرموت إلى مجتمع مدني حتى قيام الوحدة، فعادت ظاهرة حمل السلاح في حضرموت واصطحبت معها دخول وتعاطي القات، الذي قال عنه الشاعر الكبير حسين أبوبكر المحضار عندما تعاطاه أهالي الشحر لأول مرة:
قم سم بالرحمن والشيطان من رأسك خزه
لا تشتري البيعة إذا ما شي معك فيها خراج
القات ذلا مثل من ترك بعيره يعرزه
القات هو بلوه وبعض الناس سموها مزاج
والقوت ما تأكله غير قسط المزمزه
وما هو عسل جردان ولا تمر قيدوني زجاج
واربع غرش ببسي يكنين تحت جنبك جاهزة
والشرب نصف برميل لا سبعة ولا تسعة مياج
كما أن انجرامس نفسه سبق له أن كتب عن شجرة القات وتأثيرها على المتعاطي ومعلومات قد تكون صحيحة أوالعكس فقال: «القات هو عشبة شكلها أقرب إلى شكل نبات الحناء، وعندما تمضغ أوراقها تعطيك إحساساً بالعظمة والتفوق. ويقول مدمنو هذه العشبة إنها تجلي الدماغ فتشعر عندئذ أنك قادر على حل كل معضلة.
ومن الأهمية بمكان أن نذكر أن كل الناس المهمين في المدن اليمنية يمضغون القات وأن كل القضايا السياسية تناقش تحت تأثيره».
جاء ذلك في كتابه بعنوان (اليمن الائمة والحكام والثورات).. ومما جاء أيضاً في الكتاب الذي ألفه قبل الإطاحة بحكم بيت حميد الدين، وهذا القول يثير الخوف والرعب لمن يقرؤه اليوم. فماذا قال؟ قال: «اليمن هي أصل وجود العرب والعراق هي مقبرتهم».
الانتكاسة
في الوقت الذي نال الجنوب استقلاله وتحرر الشمال من حكم الأئمة وقام النظام الجمهوري هنا وهناك واقتصر التحرر على رفع العلم الجمهوري وترديد النشيد الوطني في كلا الشطرين، بمعنى آخر اقتصر التحرر على النشيد الوطني والعلم الجمهوري فقط، أما التحرر في العقول، عقول القيادات والحكومات في الشطرين، فقد انسدت دونها الأبواب، وانفتحت أمامها ابواب الصراعات والخلافات المناطقية والقبلية وعصبياتها على السلطة والنفوذ في كلا الشطرين، ومن يعود إلى تاريخ الثلاثة والأربعين عاماً الماضية وكيف سارت وتطورت الأحداث يتأكد له مدى صعوبة تحرير العقول في موروثات الماضي اليمني المتخلف وثقافة العصبية القبلية. أما في ما يتعلق بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية حتى الوقت الحاضر فقد اعتمدت على المساعدات والمنح والقروض التي قدمها العرب والصناديق العربية والدولية، الجزء الأكبر منها يذهب على التسليح لاستخدامها في الحروب الأهلية الداخلية والصراعات بين الشطرين، أما الجزء الثاني منها فيذهب إلى جيوب الفاسدين، حتى تحول الواحد منهم إلى ديناصور رهيب لا يمكن الوقوف أمامه أو تحديه، لعب وما زال يلعب دورا مأساويا في القهر والاستبداد وتخلف اليمن واليمنيين في كافة المجالات. أما الجزء الثالث من تلك المساعدات والقروض فينفق على إبقاء مزارع الفساد في اخضرار دائم، وقد تحولت اليمن اليوم بمساحتها الجغرافية من صعدة وحتى آخر حدود محافظة المهرة إلى مزرعة كبيرة لا شبيه لها لا على المستوى العربي ولا العالمي.
إن صعوبة التغيير وتحرر العقول العربية واليمنية على وجه الخصوص يدل على صحة وصواب ما كتبه المفكرون العرب والمسلمون وكذلك المستشرقون حول ثقافة وعقلية العربي والتعصب القبلي. كتب أنجرامس في نفس الكتاب الآنف الذكر عام 1962م شهر أكتوبر:
«ليت كثيرا من الناس في عدن يقرؤون ما كتبه لورنس إذن لعرفوا الكثير عن العرب، وأنا بدوري أجد هذه النصيحة جديرة بإيصالها إلى الآخرين: إن أعمدة الحكمة السبعة متوافر الآن في طبعة دار بنجوين ومن يرغب في فهم الشخصية العربية فما عليه إلا أن يقرأ الفصل الثالث على الأقل. فهذا الفصل لا يصور فقط الارتباط الوثيق لمفهوم الوحدة عند العرب بوحدانية الله، ولكنه يشرح كذلك منابع الروح الفردية لدى العرب وكيف أنهم يندفعون بسهولة خلف فكرة معينة فقط لكي يعودوا إلى التخبط عندما تفتقد هذه الفكرة قوة تأثيرها».
كما كتب مطولاً عن عدن وأهميتها الاستراتيجية في خدمة المنطقة كلها وإلا فإن هناك عيوناً أخرى أقل شاناً يمكن أن تظهر لأنه اعتبر عدن بمثابة عين اليمن، وذلك ما حدث بالفعل في أكثر من منطقة مجاورة.
أما حضرموت وما طرأ عليها من أحداث وتطورات فإن ما تم ترسيخه من إيجابيات ومن تطورات على طريق إقامة المجتمع المدني بدلاً عن المجتمع القبلي بثقافته وموروثه المتخلف، وخاصة على يد السلطان العالم صالح القعيطي والمستشار البريطاني، قد ذهب أدراج الرياح بعد الاستقلال والوحدة، وتحولت حضرموت عندها إلى سفينة وبداخلها الحضارم في هذا الكون تتقاذفها الرياح والأمواج العاتية حتى أصبح مصيرها على كف عفريت لا مكان لها من الإعراب حتى أصبحت لعبة يتلهى بها المتصارعون على السلطة والنفوذ دون أن يكون لهم نفوذ أو تواجد لا في المؤسسات العسكرية والأمنية ولا في المؤسسات المدنية. وقد لا يصدقني أحد إذا قلت إن البعض من وزراء حضرموت انفجرت حرب صيف 1994م وحراسهم الشخصيون تابعون للأمن السياسي في صنعاء.
وأن لواء الوحدة هو من كان يحمي المكلا عاصمة المحافظة عند سقوطها بيد قوات الشرعية، ونقطة الانطلاق نحو (الهربة) إلى ما وراء الحدود. هذا هو قدر حضرموت والحضارم المكتوب.
والمقدر والمكتوب من مشيئة الله، فكم تغنى الحضارم في الداخل وفي المهجر ورددوا أغنية الفنان الكبير محمد جمعة خان التي تتحدث كلماتها عن الكنز الموعود الكامن تحت رمال ثمود وصحراء الربع الخالي، لكنه ظهر دون أن يتوقع أحد من الحضارم بين أودية وسفوح حضرموت وفوق هضبتها التي تفصل الداخل عن الساحل وما أطلق عليها بالمسيلة.. ظهر الذي عذب الدنيا وطار من بين الأصابع كما يطير حمام السلام والحمام الزاجل في المناسبات والاحتفالات.
قد يقول قائل - وسوف يقول بالتأكيد - إن هذا كلام انفصالي، أقول له إن ذلك حقائق تاريخية دامغة ولا يمكن لهذه الحقائق أن تطمس أو يتم إخفاتها ولا يمكن لأحد أن يقول بذلك سوى من به لوثة عقلية.
ومع ذلك وبالرغم من كل شيء فالحضارم - وأشعر بالاعتزاز بالانتماء إلى حضرموت مثلي مثل الصنعاني والذماري والصبري - حكماء مهذبون مسكونون بثقافة التسامح والتعاون والمحبة والإخاء وبالحديث النبوي الذي يقول «حب لأخيك ما تحب لنفسك»، والمسلمون الإخوة يمثلون جسدا واحدا إذا اشتكى جزء منه تداعت له بقية الأجزاء بالسهر والحمى. هذه هي طبيعة الحضارم وهذه هي ثقافتهم ومعدنهم في كل مكان يوجدون، يعيشون، يولدون فيه، والعبرة في الزيارات المتواصلة إلى حضرموت من أندونيسيا وماليزيا وغيرها وآخرها من فنزويلا وسلطنة بروناي.
ومن المؤسف له أن الكثيرين لم يستوعبوا بعد هذه الطبيعة وهذه الثقافة الحضرمية.
«إن العالم العربي اشبه بحيوان القنفذ ما أن تلمسه في أي موضع من جسمه حتى تنتصب أشواكه في كل مواضع الجسم» هـ/انجرامس.
المؤرخ ابن خلدون
كثيرة هي الكتابات التي تحدثت عن القبيلة ومجتمعات القبائل العربية وعصبياتها، وعن العلاقات والعادات والتقاليد وصفات الكرم والشهامة وإكرام الضيف واحترام الجار وحماية المستجير ونجدة الملهوف وغير ذلك من العلاقات والموروث الشعبي سلباً وإيجاباً، والتي أصبحت ثقافة سائده تنتقل من جيل لآخر وسط المجتمعات القبلية منذ آلاف السنين.
وبغض النظر عما كتبه المستشرقون عن المجتمعات العربية القبلية أو المدنية وتحامل البعض منهم وأنهم لم يكونوا منصفين أو لهم أهداف معنية إلا أنه من الضروري أن تطرح مثل هذه القضية أو الظاهرة للنقاس، وخاصة فيما يتعلق بسلبياتها التي كتب عنها المستشرقون الذين زاروا اليمن أو عاشوا فيه لفترة من الزمن من أمثال هارولد أنجرامس، أول متشار بريطاني في حضرموت بعد إبرام معاهدة الاستشارة عام 1937م بين الحكومة البريطانية والحكومات المحلية، والذي كانت له بصمات في التعامل مع مختلف قبائل حضرموت وحل العديد من المشاكل والعلاقات القبلية وعاداتها المتخلفة مثل الثأرات القبلية والغزو وقطع الطرق ونهب الممتلكات والقتل العمد.. بالتأكيد لقد عالج مثل تلك الظواهر في حضرموت بسهولة بعد أن وجد الأرض خصبة أمامة في تنفيذ ما يريد بدعم ومساعدة الحكومات المحلية وبعض الشخصيات الاعتبارية من أمثال الرجل الثري والمغامر بوبكر بن شيخ الكاف، الذي يمكن مقارنته بالثائر المغامر، والاثنان يشتركان في أن الواحد منهم له مصالح وأطماع، سبق أن تطرق لها بعض الكتاب والمؤرخين.
من أهم الإجراءات أو المعالجات التي قام بها انجرامس على مستوى الأوضاع القبلية في حضرموت أو المحمية الشرقية لوحدها دون غيرها من المناطق أو المحميات الغربية وذلك لوضع حد نهائي للفوضى وانعدام الأمن والاستقرار، بعد تعيينه وبعد تشكيل قوة جيش البادية الحضرمي الذي مثل أفراده عبارة عن رهينة ينتسب إليه أفراد القبائل الحضرمية التي تجد صعوبة بعد ذلك في القيام بأي تمرد أو عصيان ضد السلطة البريطانية والسلطنتين القعيطية والكثيرية. وبالإضافة إلى ذلك قام انجرامس بعقد اتفاقات هدنة مع جميع قبائل حضرموت مدتها ثلاثة أعوام لوقف الثأرات القبلية، كل قبيلة على حدة، مع الحكومة البريطانية والحكومات المحلية، أي هناك ثلاثة أطراف يوقعون ويلتزمون بهذه الاتفاقيات ومن شروطها: أن أية قبيلة تخرق هذه الهدنة تلتزم الحكومة البريطانية بتأديبها وذلك بدك مناطقها وبيوتها وأملاكها بالطيران الحربي، التزام الجميع بالتنفيذ عدا حالتين حتى رحيل البريطانيين وحتى ما بعد رحيلهم إلى الوقت الحاضر تخللها تمرد قبلي جماعي تزعمته قبيلة بانهم عام 1956 والجامعة عام 1961م فقط.
وبعد فترة من الزمن وبعد أن استتب الأمن والاستقرار في ربوع حضرموت، تخلت قبائل حضرموت عن حمل السلاح، مع أن الاتفاقيات لا تنص على منع حمل السلاح وإنما شريطة وضعه في مراكز الشرطة من قبل حامله قبل أن يدخل المدينة، حتى السلاح الأبيض استغنوا عن حمله لأنه لا يوجد داعي لذلك.
هذه الظاهرة الحضارية فريدة من نوعها لم تحدث في أي مجتمع من المجتمعات القبلية وأدت إلى أن تحول المجتمع القبلي في حضرموت إلى مجتمع مدني حتى قيام الوحدة، فعادت ظاهرة حمل السلاح في حضرموت واصطحبت معها دخول وتعاطي القات، الذي قال عنه الشاعر الكبير حسين أبوبكر المحضار عندما تعاطاه أهالي الشحر لأول مرة:
قم سم بالرحمن والشيطان من رأسك خزه
لا تشتري البيعة إذا ما شي معك فيها خراج
القات ذلا مثل من ترك بعيره يعرزه
القات هو بلوه وبعض الناس سموها مزاج
والقوت ما تأكله غير قسط المزمزه
وما هو عسل جردان ولا تمر قيدوني زجاج
واربع غرش ببسي يكنين تحت جنبك جاهزة
والشرب نصف برميل لا سبعة ولا تسعة مياج
كما أن انجرامس نفسه سبق له أن كتب عن شجرة القات وتأثيرها على المتعاطي ومعلومات قد تكون صحيحة أوالعكس فقال: «القات هو عشبة شكلها أقرب إلى شكل نبات الحناء، وعندما تمضغ أوراقها تعطيك إحساساً بالعظمة والتفوق. ويقول مدمنو هذه العشبة إنها تجلي الدماغ فتشعر عندئذ أنك قادر على حل كل معضلة.
ومن الأهمية بمكان أن نذكر أن كل الناس المهمين في المدن اليمنية يمضغون القات وأن كل القضايا السياسية تناقش تحت تأثيره».
جاء ذلك في كتابه بعنوان (اليمن الائمة والحكام والثورات).. ومما جاء أيضاً في الكتاب الذي ألفه قبل الإطاحة بحكم بيت حميد الدين، وهذا القول يثير الخوف والرعب لمن يقرؤه اليوم. فماذا قال؟ قال: «اليمن هي أصل وجود العرب والعراق هي مقبرتهم».
الانتكاسة
في الوقت الذي نال الجنوب استقلاله وتحرر الشمال من حكم الأئمة وقام النظام الجمهوري هنا وهناك واقتصر التحرر على رفع العلم الجمهوري وترديد النشيد الوطني في كلا الشطرين، بمعنى آخر اقتصر التحرر على النشيد الوطني والعلم الجمهوري فقط، أما التحرر في العقول، عقول القيادات والحكومات في الشطرين، فقد انسدت دونها الأبواب، وانفتحت أمامها ابواب الصراعات والخلافات المناطقية والقبلية وعصبياتها على السلطة والنفوذ في كلا الشطرين، ومن يعود إلى تاريخ الثلاثة والأربعين عاماً الماضية وكيف سارت وتطورت الأحداث يتأكد له مدى صعوبة تحرير العقول في موروثات الماضي اليمني المتخلف وثقافة العصبية القبلية. أما في ما يتعلق بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية حتى الوقت الحاضر فقد اعتمدت على المساعدات والمنح والقروض التي قدمها العرب والصناديق العربية والدولية، الجزء الأكبر منها يذهب على التسليح لاستخدامها في الحروب الأهلية الداخلية والصراعات بين الشطرين، أما الجزء الثاني منها فيذهب إلى جيوب الفاسدين، حتى تحول الواحد منهم إلى ديناصور رهيب لا يمكن الوقوف أمامه أو تحديه، لعب وما زال يلعب دورا مأساويا في القهر والاستبداد وتخلف اليمن واليمنيين في كافة المجالات. أما الجزء الثالث من تلك المساعدات والقروض فينفق على إبقاء مزارع الفساد في اخضرار دائم، وقد تحولت اليمن اليوم بمساحتها الجغرافية من صعدة وحتى آخر حدود محافظة المهرة إلى مزرعة كبيرة لا شبيه لها لا على المستوى العربي ولا العالمي.
إن صعوبة التغيير وتحرر العقول العربية واليمنية على وجه الخصوص يدل على صحة وصواب ما كتبه المفكرون العرب والمسلمون وكذلك المستشرقون حول ثقافة وعقلية العربي والتعصب القبلي. كتب أنجرامس في نفس الكتاب الآنف الذكر عام 1962م شهر أكتوبر:
«ليت كثيرا من الناس في عدن يقرؤون ما كتبه لورنس إذن لعرفوا الكثير عن العرب، وأنا بدوري أجد هذه النصيحة جديرة بإيصالها إلى الآخرين: إن أعمدة الحكمة السبعة متوافر الآن في طبعة دار بنجوين ومن يرغب في فهم الشخصية العربية فما عليه إلا أن يقرأ الفصل الثالث على الأقل. فهذا الفصل لا يصور فقط الارتباط الوثيق لمفهوم الوحدة عند العرب بوحدانية الله، ولكنه يشرح كذلك منابع الروح الفردية لدى العرب وكيف أنهم يندفعون بسهولة خلف فكرة معينة فقط لكي يعودوا إلى التخبط عندما تفتقد هذه الفكرة قوة تأثيرها».
كما كتب مطولاً عن عدن وأهميتها الاستراتيجية في خدمة المنطقة كلها وإلا فإن هناك عيوناً أخرى أقل شاناً يمكن أن تظهر لأنه اعتبر عدن بمثابة عين اليمن، وذلك ما حدث بالفعل في أكثر من منطقة مجاورة.
أما حضرموت وما طرأ عليها من أحداث وتطورات فإن ما تم ترسيخه من إيجابيات ومن تطورات على طريق إقامة المجتمع المدني بدلاً عن المجتمع القبلي بثقافته وموروثه المتخلف، وخاصة على يد السلطان العالم صالح القعيطي والمستشار البريطاني، قد ذهب أدراج الرياح بعد الاستقلال والوحدة، وتحولت حضرموت عندها إلى سفينة وبداخلها الحضارم في هذا الكون تتقاذفها الرياح والأمواج العاتية حتى أصبح مصيرها على كف عفريت لا مكان لها من الإعراب حتى أصبحت لعبة يتلهى بها المتصارعون على السلطة والنفوذ دون أن يكون لهم نفوذ أو تواجد لا في المؤسسات العسكرية والأمنية ولا في المؤسسات المدنية. وقد لا يصدقني أحد إذا قلت إن البعض من وزراء حضرموت انفجرت حرب صيف 1994م وحراسهم الشخصيون تابعون للأمن السياسي في صنعاء.
وأن لواء الوحدة هو من كان يحمي المكلا عاصمة المحافظة عند سقوطها بيد قوات الشرعية، ونقطة الانطلاق نحو (الهربة) إلى ما وراء الحدود. هذا هو قدر حضرموت والحضارم المكتوب.
والمقدر والمكتوب من مشيئة الله، فكم تغنى الحضارم في الداخل وفي المهجر ورددوا أغنية الفنان الكبير محمد جمعة خان التي تتحدث كلماتها عن الكنز الموعود الكامن تحت رمال ثمود وصحراء الربع الخالي، لكنه ظهر دون أن يتوقع أحد من الحضارم بين أودية وسفوح حضرموت وفوق هضبتها التي تفصل الداخل عن الساحل وما أطلق عليها بالمسيلة.. ظهر الذي عذب الدنيا وطار من بين الأصابع كما يطير حمام السلام والحمام الزاجل في المناسبات والاحتفالات.
قد يقول قائل - وسوف يقول بالتأكيد - إن هذا كلام انفصالي، أقول له إن ذلك حقائق تاريخية دامغة ولا يمكن لهذه الحقائق أن تطمس أو يتم إخفاتها ولا يمكن لأحد أن يقول بذلك سوى من به لوثة عقلية.
ومع ذلك وبالرغم من كل شيء فالحضارم - وأشعر بالاعتزاز بالانتماء إلى حضرموت مثلي مثل الصنعاني والذماري والصبري - حكماء مهذبون مسكونون بثقافة التسامح والتعاون والمحبة والإخاء وبالحديث النبوي الذي يقول «حب لأخيك ما تحب لنفسك»، والمسلمون الإخوة يمثلون جسدا واحدا إذا اشتكى جزء منه تداعت له بقية الأجزاء بالسهر والحمى. هذه هي طبيعة الحضارم وهذه هي ثقافتهم ومعدنهم في كل مكان يوجدون، يعيشون، يولدون فيه، والعبرة في الزيارات المتواصلة إلى حضرموت من أندونيسيا وماليزيا وغيرها وآخرها من فنزويلا وسلطنة بروناي.
ومن المؤسف له أن الكثيرين لم يستوعبوا بعد هذه الطبيعة وهذه الثقافة الحضرمية.
«إن العالم العربي اشبه بحيوان القنفذ ما أن تلمسه في أي موضع من جسمه حتى تنتصب أشواكه في كل مواضع الجسم» هـ/انجرامس.