مانهاتن الصحراء (1)

> ريم عبدالغني:

>
هي مدينة الشمس ،تحمل لونها وتبهر الناظر بوهجها الذهبي، رغم أنها تبدو من بعيد مكسوة بالثلوج بسبب الطلاء الأبيض الذي يعلو مبانيها، و هي مدينة القمر أيضاً، إذ طالما اشتهرت مصدراً للقماش القطني ذي اللون الأزرق النيلي «Indigo»، الذي يبدو زاهياً براقاً بلون أشعة القمر الفضية، عُرفت قديماً بالمدينة الصفراء نظراً للون الحبوب التي كانت تحملها القوافل التجارية العابرة لها ، كما عرفت باسم «البلاد» دلالة على عظمتها .

إنها شبام حضرموت، سميت باسم ملكها شبام بن حارث بن حضرموت بن سبأ الأصغر، «تقبع فوق تلة وسط الوادي الرحب، منذ القرن الرابع ميلادي، بين أطلال الشواهد المادية لتاريخ اليمن العظيم، تنبعث من خمائل النخيل الغناء لتحلق برشاقة إلى عنان السماء، أبنية برجية بارتفاع سبعة أو ثمانية أدوار يعانق بعضها البعض، ويعود بناء معظمها لعدة قرون خلت، مبنية من الطين المجفف بأشعة الشمس»، هكذا وصفها أحمد مختار أمبو، مدير عام منظمة اليونسكو، في ندائه الذي وجهه في عام 1984 لحماية شبام، التي كانت اليونسكو قد وضعتها إحدى المدن التاريخية السبع على لائحة التراث العالمي منذ عام 1982، خاصة بعد الفيضان الكبير الذي اجتاحها في مارس من العام ذاته .

ولأنها كانت دائماً مركز عائلات أغنياء التجار والمهاجرين و المشايخ، فقد تساوت ارتفاعات الأبنية وتجانست أشكالها حتى بدت البنايات الخمسمائة بناءً واحداً، و الرقعة المحدودة على الهضبة التي بنيت عليها المدينة أرغمت السكان على إقامة أبنية متراصة متقاربة ضيقة و عالية، لذلك تخلت البيوت الشبامية عن تصميم المنزل التقليدي العربي وعن الفناءات المكشوفة في الداخل واتبعت النهج الشاقولي، فارتفع البناء الواحد إلى سبعة أو ثمانية أدوار ليضم عادة عائلة واحدة .

يعود أقدم أبنيتها إلى أكثر من أربعة قرون كبيت (جرهوم)، وأقدم بناء مؤرخ في المدينة هو مسجد (الجمعة) الذي بني أثناء حكم الخليفة هارون الرشيد، و يحتل ركناً أساسياً من ساحة (الحصن)، ساحة شبام الرئيسية، إلى جانب قصري السلطان وسوق المدينة الرئيس.

لمدة طويلة بقيت شبام عاصمة وادي حضرموت، فهي نقطة التقاء طرق القوافل والتجارة والمبادلة التي تمتعت عبر العصور بمكانة فائقة وشهرة واسعة وصلت حتى سواحل إفريقيا الشرقية، و مع تغيّر الظروف الاقتصادية والسياسية في منتصف القرن الفائت احتلت سيئون هذا المركز .

لكي تستمر، كان على المدينة الصغيرة أن تصمد في وجه الكثير من التحديات والصعوبات وأولها الحروب والطامعون، وقد دب الخلاف طويلاً بين السلطان (الكثيري) والسلطان (القعيطي) للسيطرة عليها، و ربما تكون شبام أكثر مدينة ذُكر تاريخياً أنها بيعت واشتُريت ، فقد بيعت عام 617 هـ لابن مهدي، و عام 628 هـ لمسعود بن يماني، و عام 633 هـ لابن اقبال ، وعام 672 هـ لسالم بن إدريس الحبوظي، واشترى القعيطيون نصف شبام من آل كثير عام 1275 .

احتمت شبام من حالات الحصار المتكرر الطويل بسور مرتفع يحيطها ،يعترضه جنوباً مدخلها الوحيد (السدة) ،كما تلاصقت للسبب ذاته أبنيتها العالية كالقلاع المتراصة السريعة الإغلاق والعزل، ولم يكن للبناء نوافذ منخفضة في الدور الأرضي و لا معبر له على الشارع إلا مدخله الرئيس.

و الدور الأرضي هو غالباً مستودع للزاد وعلف الحيوانات ، أما الدور الثاني فهو للأغنام والدور الثالث لرب الأسرة، أما الطوابق العليا فللنساء والشباب المتزوجين، وفي أعلى البيوت توجد السطوح المفتوحة (الريوم) و تستخدم للسمر و حتى المبيت في الصيف ، وترتفع جدرانها الشرقية أو الغربية مما يُلقي مساحات ظل على سطحها نهاراً و يجعلها أكثر برودة في المساء ، وتخيلوا معي ما أجمل السمر في رََيْم شبامي في ليلة صيفية جميلة تحت سماء حضرموت المذهلة الصفاء.

أترككم مع أبيات للشاعر الحضرمي سعيد با حارثة ،على أن نتابع حديثنا عن شبام في العدد القادم إن شاء الله:

الطين والتبل يعمل معجزات منه بنينـا عمايـر عاليـات

شبام منذ القرون الماضيـات بيوتهـا والسـحب متناطحات

عمارة الطين هـي فـن الجدود حقق نجاحـات والعـالم شهود

والطوب والخرسانه والحديد غريب حل في بلدنا من جديد

لعمارة الطين ما يوجد مثيل قوة وتحفة وكلفتها قليل

على الأصالة يحافظ كل أصيل حرام يتشوه الوجه الجميل

[email protected]

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى