رحلة إلى عالم العذريين (1)

> «الأيام» د. عبده يحيى الدباني:

> العذرية في الأصل هي نسبة إلى قبيلة (عذرة) العربية التي كانت تحل في وادي القرى الذي يقع في الطريق بين المدينة المنورة والشام، وقد نسبوا الحب الشديد المتطرف إليها فقالوا: الحب العذري، والغزل العذري، والشعر العذري، أي الشعر الذي يعبر عن شدة المحبة ورسوخها وعفتها، فقد روي أن أحداً من أبناء (عذرة) وفد إلى المدينة، فعندما سئل ممن أنت قال: أنا من قوم إذا عشقوا ماتوا، فسمعته امرأة فقالت على الفور إنه عذري ورب الكعبة!! وقيل لرجل من عذرة: مالكم تذوبون من العشق، وتنمات قلوبكم فيه ..ألا تجلّدون؟ فقال الرجل العذري: «إن في نسائنا صباحة وفي فتياتنا عفة» ويقصد بالصباحة: الجمال، وعلى أية حال فظاهرة الحب العذري وشعره لم تقتصر على عذرة في العصر الأموي ولكنها كانت ظاهرة سائدة في بوادي الحجاز ونجد بوجه عام، ليس هنا مقام تفسيرها ثم أن المبالغة في العشق ظاهرة إنسانية عامة لم يخل منها زمان ولا مكان ولا مجتمع، لكنها في مجتمع البادية العربية في عصر بني أمية كانت واسعة الانتشار.

ولسنا هنا إلا بصدد الوقوف أمام أبيات سائرة من شعر الحب العذري نختزل من خلالها التجربة العذرية المتأزمة الجريحة التي أثرت الشعر العربي، وكان لها قصصها وحكاياتها التي اختلط فيها الواقع بالخيال الشعبي الجمعي.. هذا الشعر المتوهج بالعاطفة الذي أصبح قاموساً للمحبين ورموزاً خالدة تشير إلى النقاء العاطفي الفطري الذي لم تلوثه الحضارة والمدنية وعقد الإنسان المكتسبة وتعقيد حياته، إذ قلما وجدنا ذكراً لـ (الخيانة) في الشعر العذري نظراً لانتفائها بين المحبين العذريين، على ما في هذا الشعر والتجربة التي يعبر عنها من عيوب لا تنسجم مع رسالة الإنسان في الحياة كما أرادها الله تعالى.

فمن هذه الأبيات المعبرة المؤثرة قول مجنون ليلى:

صغيرين نرعى البهمَ ياليت أننا ** إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهمُ

فهذا البيت -على ما فيه من سذاجة وفطرة- يعبر عن أزمة التجربة العذرية فقد أراد الشاعر من الزمن أن يتوقف هناك في الماضي البعيد الجميل ولكن هيهات.. وهذا يدل أيضاً على تبكير المحبة بين العاشقين إذ تعود إلى أيام الصبا والرعي، مما أدى إلى رسوخها وديمومتها حتى استغرقت العمر كله، ويدل البيت على علاقة الشاعر العذري بالزمن فليس له منه إلا اللحظات الجميلة في الماضي. كما يدل البيت على الحرمان والانقطاع فبمجرد ما شب الفتيان حالت بينهما الحوائل ومُنعا الزواج واللقاء مما أشعل جذوة الهيام الشديد ومن ثم فقدان الإرادة لا سيما عند الرجل، في ظل الفراغ الذي كان سمة الحياة في البادية فضلاً عن اليأس والشعور بالإحباط والغربة، فقد قيل في تعريف العشق أنه «حركة قلب فارغ» مع أن الزواج كان هو الحل الأساس لأزمات المحبين .. جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا أرى للمتحابين مثل النكاح» أي الزواج.

[email protected]

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى