مانهاتن الصحراء (2)

> ريم عبدالغني:

>
«إذا ألقى الإنسان نظرة على هذه القصور والدور المائلة جدرانها إلى الوراء، ورأى سقوفها البالغة أقصى حدود الزخرفة والأناقة، و تأمل أبراجها المرتفعة إلى السماء، يصدق الأساطير الخرافية عن جمال قصور ملكة سبأ وهارون الرشيد»، هذه كلمات المؤرخ الألماني (هانس هلفيرتز) في وصف عمارة حضرموت و تحديداً مدينة شبام.

ولأن العمارة هي محصلة ذكاء الإنسان وفكره وتفاعله مع البيئة، فهي وجه صادق للثقافة، و عمارة مدينة شبام تعبير حي عن المستوى الحضاري العظيم الذي وصله اليمنيون، تستطيع أن تقرأ من خلاله عراقة التطور المعماري اليمني وبلوغه درجة مدهشة من الدقة والمهارة والإبداع. نتابع اليوم حديثاً بدأنا به في العدد السابق عن شبام، حيث بنى الحضرميون، من التراب والطين المجفف في الشمس، أول ناطحات سحاب في التاريخ، إحدى روائع ما بناه الإنسان أبداً في مجال العمران والهندسة المعمارية، أليست قمة الإبداع الهندسي أن يشيّد البنّاء الشبامي وبأدوات بدائية منزلاً متكاملاً على رقعة صغيرة لا تتجاوز ( 6×6 متر)؟.

أما السقوف والأبواب والنوافذ والأعمدة فقد صنعوها من جذوع أشجار العلب (السدر)، الذي على أزهاره يتغذى النحل صانعاً العسل الحضرمي النادر بنكهته الخاصة، واحداً من أجود أنواع العسل في العالم.

وبالطلاء الكلسي الأبيض (النورة)، الذي اشتهرت به حضرموت، طلى الشباميون مساجدهم والأقسام العليا من بيوتهم وإطارات نوافذهم، وإلى جانب هدفها الجمالي تعكس (النورة) أشعة الشمس اللافحة وتعزل الرطوبة و تمنع تسرب مياه الأمطار، ناهيك عن أنّ مكوناتها طاردة للحشرات.

تتصل بيوت شبام بعضها ببعض بجسور (يدعى واحدها «السقيفة» أو « المعبار ») تصل بين الطوابق العليا للبيوت المتجاورة أو المتقابلة خصوصاً بين المراويح (غرف الاستقبال ومعيشة النساء وهي عادة في الطابق الثالث والرابع) وتسهل الاتصال بين الساكنين و لا سيما النساء، فتجعل الانتقال بين الأبنية ممكناً، بعيداً عن القيظ ودون عبور الشارع والسلالم العالية، كما تلبي حاجات أمنية خلال الحروب والحصار.

وقد وجدت ناطحات السحاب الطينية في شبام منذ قرون حلولاً للعديد من المشاكل التي تواجهها اليوم هندسة العمارات الحديثة، فتصميم النوافذ والفتحات- مثلاً بالرغم من اتساعها أحياناً - يسمح بالانفتاح البصري نحو الخارج دون المساس بخصوصية دواخل للمنازل المتقابلة أو المتجاورة، وينفذ الهواء والضوء من خلال المشربيات الخشبية الجميلة لكنها لا تسرب الإشعاعات الحارة و لا أنظار المتطفلين، ثم أن تعدد أنواع الفتحات وتوزعها بذكاء في واجهة البيت الشبامي (كالعكرة واللهج والشمسة ) كان مدروسا و كذلك علاقته بحركة الشمس والهواء للحصول على التهوية والإنارة المرغوبين. أما حرارة الصيف وبرودة الشتاء فتحدّ منها جدران البيوت الطينية السميكة (متر في الأدوار السفلية وتقل بالاتجاه للأعلى) التي تخزن الحرارة النهارية لتطلقها ليلا.

أبدع الحضارمة في تخطيط مدينة شبام، ولخلق بيئة ملائمة للعيش المريح في منطقة صحراوية من أكثر مناطق العالم استلاماً للإشعاع الشمسي، عملوا على تقليص المساحة الأرضية المعرضة للأشعة الشمسية قدر الإمكان، فالشوارع الضيقة تسمح للمباني العالية والمتلاصقة بتظليل واجهات بعضها البعض وتظليل الشارع نفسه، مما يسهل تنقّل الناس ويريحهم، ثم إن ضيق الشوارع وانتهائها بالساحات، صمم ليمكن الهواء من الاندفاع بسرعة أكبر نحو المنافذ الواسعة، مما يشعر السائرين فيها بالطراوة الناتجة عن ذلك، ويقلل تلاصق البيوت الشبامية، خاصة في الأطراف الشمالية للمدينة، من أثر الرياح الشمالية الباردة شتاءً وكذلك أثر الرياح المحلية الحارة (السموم) صيفاً، فضلاً عن صد أتربتهما.

و لأن كل إنسان مهندس بيته في عمارة الطين، تُخلق علاقة خاصة بين الساكنين والبناء الذي يكون ملائما للحاجات والتقاليد، يحترم البيئة، يقتصد في الكلفة و الوزن، ويتميز بعازلية حرارية وصوتية عالية وقدرة كبيرة على مقاومة الحرائق، لكن أجمل ما في عمارة الطين هو أنها ترجمة لعبقرية التعاون الإنساني وإبداع الأيادي المتشابكة، كما يقول الشاعر الحضرمي سعيد با حارثة:

اليد فوق اليد وحده يَــد مـا تبـني ** انظر شبام العاليــه محكومة المبـنى

والفخر للباني ** عسى الأبنـاء مثيـل الأهــل يبنون

أقدم عماير شـامخه الكـل بهـا معني ** فن حضرمي يمني دلاله لـه وله معنى

رسمي وعنواني **بنـوه أهلـي بــلا عِـدِّه ومـاعون

[email protected]

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى