الأحد, 29 يونيو 2025
162
في قلب المأساة المعاصرة التي تعيشها بعض المدن، تُطلّ علينا من بين ركام الدولة المتهالكة ظاهرة مريرة تُعيد إلى الأذهان نماذج الاستبداد الجغرافي الذي يستبدل السيادة بالهيمنة، والوطنية بالعصبية، والنظام بفوضى القوة. إنها صورة الاحتلال المغلّف بلون داخلي، لكنه لا يقل بشاعة عن الاحتلال الأجنبي، بل يفوقه إيلامًا، لأنه يتنكّر في ثوب القرب والانتماء، بينما هو في جوهره غزو مبني على منطق السلاح، لا على شرعية القانون ولا على روح المواطنة. فحين تُستباح مدينة ما تحت ذريعة “النفوذ” و“التواجد العسكري”، ويُقصى أهلها من مؤسساتها، وتُسلَب حقوقهم المعيشية، وتُنتزع منهم أراضيهم لصالح الوافدين، فإننا أمام حالة استعمار محلي صريح، وإن لم يُعلن عنها رسميًا.
لقد علمنا التاريخ مرارًا أن المدن لا تُحكم بقوة البنادق ولا بثقل الدبابات، وإنما تُصان بالعدالة وتحيا بالمساواة. فالمدينة ليست مجرد جدران وأسفلت، بل هي روح الناس التي تسكنها، وذاكرتهم، وحقوقهم المتراكمة التي لا يجوز اغتصابها تحت أي ذريعة، سواء كانت عسكرية أو أمنية أو مناطقية. وعندما تتراجع الدولة عن دورها، ويُترك المجال لعصبيات مسلّحة تنتمي جغرافيًا لأطراف نائية، لكنها تسعى إلى حكم المدن بالقوة وإعادة صياغتها وفق تصوراتها الضيقة، فذلك إيذان بانهيار مبدأ المواطنة الشاملة، وتهديد مباشر للسلم الأهلي الذي هو أساس بقاء الأوطان.
قال نيتشه ذات مرة: "كل ما يُفعل بدافع السلطة، يُفعل خارج منطق الأخلاق". وهذا ما يتجلى في واقعنا حين تُمارس القوة لإخضاع مدينة لم تبايع الغزاة، ولم تفوّض أحدًا ليمثلها. فبدلاً من أن تُنفق الجهود لبناء الجسور بين المناطق، يُعاد إنتاج التصدع الوطني عبر زحف مدجج بالسلاح نحو المدن التي ظلت – رغم كل الجراح – مؤمنة بالمدنية وبالعيش المشترك، حتى إذا دخلها هؤلاء، قلبوا سلمها الاجتماعي رأسًا على عقب، وبدّلوا أنظمتها بهياكل فوقية لا تعرف من العدالة إلا اسمها، ولا من الإدارة إلا استبدال سكانها الأصليين بوجوه وافدة.
وتكمن الخطورة الأكبر في الشرعنة غير المعلنة لهذا التمدد، الذي يجد غطاءه في صمت الدولة، وتواطؤ بعض مؤسساتها، أو عجزها في أحسن الأحوال. فأينما غابت سلطة الدولة العادلة، حضرت سلطات الواقع المفروضة، والتي لا تملك من مقومات الحكم إلا العصبية، ولا من وسائل الإدارة إلا النهب والتهميش. وقد قال ابن خلدون: "الظلم مؤذنٌ بخراب العمران"، وما أكثر العمران الذي يُهدَم اليوم في وضح النهار، لا على يد الغزاة القادمين من خلف الحدود، بل على يد من جاء من أطراف الداخل مسلحًا بعقدة استحقاق زائف.
إن التجارب التاريخية تؤكد أن كل احتلال محكوم عليه بالفشل مهما طال أمده. فالمغول حين اجتاحوا بغداد وسفكوا الدماء، لم يكن يتصور أحد أن إمبراطوريتهم ستتهاوى لاحقًا أمام المقاومة الثقافية والروحية للشعوب التي أُخضعت. والنازيون حين دكّوا المدن الأوروبية وفرضوا سيطرتهم بالقوة، لم يستوعبوا أن آلة البطش وحدها لا تُنتج ولاء، بل تستولد الكراهية. واليوم، كل مدينة تُحتلّ من أهلها، ستلفظ الغزاة مهما طال بقاءهم، لأن الأرض لا تمنح انتماءها إلا لمن يرعاها لا لمن ينهبها.
وتبقى الحقيقة الثابتة أن العصبية المناطقية حين تتحول إلى أداة حكم، فإنها تمهد الطريق لنهايات مأساوية لكل من يعتقد أن الغلبة تدوم. "السلطة التي تبنى على الخوف تسقط بالخوف"، قالها توماس هوبز، وهي تختصر مصير من يفرض وجوده لا بإرادة الناس، بل بإرهابهم. فما قيمة السيطرة إن كانت تقوم على أنقاض بيوت السكان، وعلى معاناة من لا يجدون قوت يومهم في مدينتهم، بينما يستأثر الوافدون بكل شيء من الدواء إلى الماء، ومن الوظيفة إلى القرار؟
إنّ أخطر ما يمكن أن يحدث لوطنٍ ما، هو أن يُستعمر من داخله، أن يُطرد أبناؤه من مواقعه، وتُدار شؤونه بأيدٍ لا تحترم قيمه ولا تفقه تاريخه. ولعل أخطر من كل هذا، هو صمت النخب عن هذه الجرائم، وحياد من يُفترض أنهم ممثلو الشعب. فما لم تُرفع الأصوات لرد هذا الطغيان، ويُعاد الاعتبار لسكان المدن الأصلاء، فإنّ الوطن لن يعرف أمنًا، ولن تهنأ مدينة بعيش مستقر، ولن تنمو حضارة على حطام الكرامة.
فليتّعظ من لا يزال يتوهم أن المدن جوائز حرب، وأن القوة وحدها كافية لإعادة هندسة التاريخ، المدينة الحيّة ترفض الاحتلال، ولو لبست السلطة عباءة الداخل. ومن يظن أنه استقوى اليوم بالسلاح، فليقرأ مصير كل من اجتاح بلا شرعية: نهايته كانت دومًا الذل أو النسيان.