لبنان في عيون جبران

> «الايام» خالد شفيق امان:

> أحب جبران خليل جبران موطنه الصغير حباً يقارب الهيام، ففي جبال لبنان التي لا نظير لها بين الجبال تفتحت عبقريته، ومن ألوان أغساقها الحالمة وأسحارها الساحرة استمدت ألوان إلهامها، فلاعجب أن يتغنى جبران أول ما يتغنى بمفاتن لبنان، وأن يحس أوجاعه في كل نبضة من نبضات قلبه الحساس، وأن ينتفض وجدانه السليم انتفاضة الألم العميق لكل مشهد من مشاهد الذل والظلم والرياء في هذه البقعة التي أحبها إلى أقصى حدود المحبة وكان يودها طاهرة من كل شيء إلا من الكرامة والعدل والمحبة والجمال . ولذلك، كانت كل بواكيره من وحي لبنان، فمن «الموسيقى» إلى «عرائس المروج» إلى «الأرواح المتمردة» إلى «الأجنحة المتكسرة» يمضي جبران يعرض عليك صوراً لبنانية، وأصواتاً لبنانية، ثم ينصرف عن موطنه الأصغر إلى موطنه الأكبر- إلى العالم- ولكنه يعود بك بين الحين والآخر، فتسمعه يصرخ بعد أعوام :

لكم لبنانكم ..ولي لبناني .

«لكم لبنانكم ومعضلاته ولي لبناني وجماله ،

«لكم لبنانكم بكل ما فيه من الأغراض والمنازع، ولي لبناني بما فيه من الأحلام والأماني .

«لبنانكم طوائف وأحزاب، أما لبناني فصبية يتسلقون الصخور ويركضون مع الجداول .

«لبنانكم خطب ومحاضرات ومناقشات، أما لبناني فتغريد الشحارير وحفيف أغصان الحور والسنديان ورجع صدى النايات في المغاور والكهوف».

وفي كتابه «العواصف» مقالات تعود بك إلى جبران «دمعة وابتسامة»، إلى ذلك الشاعر الوجداني الذي ما كان يلذه شيء مثلما يلذه أن ينثر قلبه على الورق بكل ما فيه من حب وكآبة ووحشة وغربةوألم وشوق وحنين، مثال ذلك مقطوعته البديعة في «الشاعر» حيث يقول: «أنا غريب وقد جبت مشارق الأرض ومغاربها فلم أجد

مسقط رأسي ولا لقيت من يعرفني».

وكذلك مقاله الجميل «بين ليل وصباح» الذي مطلعه «اسكت يا قلبي فالفضاء لا يسمعك» والذي يختتمه بقوله :

«قم يا قلبي وارفع صوتك مترنماً، فمن لا يشارك الصبح بأغانيه كان من أبناء الظلام».

وكذلك مقاله المؤثر «مات أهلي» الذي كتبه يوم كانت المجاعة تحصد الناس حصداً في لبنان إبان الحرب العالمية الأولى، والذي بلغ فيه منتهى الرقه والعذوبة والحنان، إذ يتمنى لو يكون سنبلة من القمح نابتة في تربة لبنان يقتات بها طفل جائع، أو ثمرة يانعة في بساتين لبنان تجنيها امرأة جائعة، أو طائراً في فضاء لبنان يصطاده صياد جائع.

«مات أهلي .

«ماتوا لأنهم لم يكونوا مجرمين .

«ماتوا لأنهم لم يظلموا الظالمين .

«ماتوا لأنهم كانوا مسالمين .

«ماتوا لأن الأفاعي أنباء الأفاعي، قد نفثوا السموم في الفضاء الذي كانت تملؤه أنفاس الأرز وعطور الورود والياسمين .

«نكبة بلادي نكبة خرساء، نكبة بلادي جريمة حبلت بها رؤوس الأفاعي والثعابين .

كان آخر ما كتبه جبران بالعربية مقالاً أعده لجريدة «السائح» في مطلع سنة 1931م.وهو حوار يدور بين ملك وداعٍ فيخرج الراعي منه ظافراً ولكن ذلك العدد لم يصدر، ولم يكتب لجبران ان يقرأ مقاله مطبوعاً، فقد أدركته المنية مساء العاشر من أبريل من العام نفسه.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى