> عبدالقوي الأشول:

ربما هو الحر بشدته التي أفقدتني صوابي.. قطرات العرق المتصبب التي ابتلت معها ملابسي.. وجوه الناس المتبرمة.. أووف حمى.. أوف حر.. في خضم هذه الموجه الصيفية غير المعهودة بما سجلته من ارتفاعات في ميزان الحرارة الفهرنهايتي.

أجواء مشبعة برطوبة الأجساد الضامرة من حولي، الوجوه التي تعلوها الدهشة من هذا الفرن الجهنمي الذي يرجل لنجد أنفسنا نغلي بداخله كمن هم في سدر برزخي بين اليقظة والعقل واللاعقل.. أسأل نفسي في هذه الأجواء المشبعة بالرطوبة وأبحث عن مدينتي عدن التي لم تكن أجواؤها أو فصولها تنذر بمثل هذا الغضب الإلهي أو هذا الغيظ بتجليات الزفير الكوني الناجم عن عبث الإنسان بالطبيعة.

أبحث عن تلك المدينة الساحلية التي لم تكن تبلغ فيها درجات الحرارة هذ المستوى.. المدينة التي تتخللها منافذ ومتنفسات.. وحين تشتد بساكنيها ضائقة الحر يلجأون إلى صدر شواطئها الرحبة المفتوحة التي تمثل في مثل تلك الأثناء رئة تمدهم بندى المد الأزرق ورذاذ مائه وزخات نسماته العطرة، أما وقد تبدلت معالم المدينة فلم يعد هناك ما يحمينا من عبث موجات متتالية ليس آخرها ولا أولها الحر والفقر وارتفاعات الأسعار.

هنا تحت أشعة الشمس اللافحة التي تتماهى معها أجسادنا في توحدها مع هذه الصخور البركانية، نقف حاسري الرؤوس تحت وهج الصيف حتى أن الأشجار التي كانت واقفة عند مداخل الحواري والأزقة وعلى جنبات الطرق أو بقايا الطرق لم تعد إلا فيئاً في الذاكرة تحمل صورة ذلك الحفيف الذي كانت تصدره حين يداعب النسيم جنباتها برفق.

إذن ما من لوم إن بلغ الهذيان منتهاه في مثل هذه الأجواء التي تجعلك تمارس قدراً من المواربة مع قيء.. أمعاؤك في طريقها لإلقاء ما بداخلها من جالونات الماء الذي ربما يسكن عطشك ولا يلغي جزعك من موجات أخرى قادمة.

أبحث في سراب السراب عن مدينتي، عن وجه الحياة الذي كان.. أناجي أنفاس البحر المحتبسة، أسأل عن ما وراء الأفق.. وهدات الموج. وهل حكمت علينا الأقدار أن نكون تحت رحمة الأنواء.. لسنا صخرة الوادي، ولا نمتلك قدرات خارقة لانتمائنا إلى عالم البشر الضعفاء، وربما لأننا ولدنا وفي فمنا مياه مالحة.

في مدن تشبهنا لجأت البلديات إلى التشجير وسيلة لإنقاص درجة الحرارة، أما في أحوالنا فقد جرى الحديث عن الحزام الأخضر للمدينة، وحملات التشجير المتكررة، أما الثابت مما سلف فلا شيء على صدر أرجاء عبثت بمساحاتها مبان أسمنتية متجهمة ربما لأنها نشأت في الغالب على عجل.. في مدن تشبهنا يلجأ الأهالي إلى وسائل التكييف، في حالنا الأمر غير ممكن لأن ذلك يعني أن نشتري ملطف الهواء (التكييف) بقوت أولادنا.. وهي معادلة صعبة للغاية.. نعم جرى الحديث ذات يوم في أروقة مجلس النواب بعاصمتنا المعتدلة المناخ عن إمكانية منح المناطق الساحلية تعرفة خاصة بسعر الكهرباء.. إلا أن ذلك مثل سائر الأمور التي لم تتم.. فالمعنيون سواء في العاصمة أو المدينة التي زعموا أنها اقتصادية وتجارية.. يعيشون في مناخ مختلف عن سائر العباد.. حتى أنهم في عدن اتخذوا من نقاط المنافذ البحرية دوراً تسد عنا رحمة الباري إن نزلت، فلا غرابة أن أبحث عن عدن في خضم موجات غضب الطبيعة.. وغيظ حقد بني جلدتنا.