بشارة بانزياحات قادمة

> «الأيام» د.عمر عبدالعزيز:

> توطئة .. عرفت الشاعر والإعلامي المرموق رعد أمان وهو شاب فتي واصل لتوه من الدراسة الجامعية. كان ذلك في أمسية شعرية أولى له في مقر اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، وبمجرد الاستماع إليه ولأول مرة لفت نظري مفارقته البيّنة للركاكة اللغوية التي تسود في أيامنا عطفا على تغوّل اللهجات وسيطرتها حتى على ألسنة الأدباء والمتأدبين، كما تيقنت من شعرية الفتى الشاب الموصولة بثقافة نابعة من أساس البيئة العدنية لبيت أمان، ذلك البيت الذي خرج منه شاعر الرومانتيكية الأكبر، والفنان الشامل لطفي أمان، وبهذه المناسبة لا بد من الإشارة إلى أن الشاعر الفنان لطفي أمان جمع بين المهنية الإعلامية الراكزة، والشاعرية العالية التي يتموضع فيها كواحد من الصف الأول لكوكبة شعراء الوجدان العرب.

كان لطفي أمان شاعرا رومانتيكيا وجدانيا مؤصلا في الثقافة العربية، ومتواشجا أيضا مع الآداب الإنسانية والإنجليزية منها على وجه التحديد، حتى أن مجايلته الإبداعية لكبار قامات الشعر العربي في عصره تجاوز الزمن إلى الإبداع وبالمعنى الواسع للكلمة، مضيفا إلى ذلك ثقافة تشكيلية تشهد بها لوحاته المرسومة بالماء والرصاص والأحبار، وثقافته الموسيقية التي تواشجت مع صوت الراحل الفنان أحمد قاسم، حتى أن لغة لطفي الشعرية الغنائية بدت مموسقة بالضرورة، مدوزنة بكلماتها، الأمر الذي جعل من الثنائي (لطفي/أحمد) ظاهرة فنية عدنية يمانية وعربية بامتياز.

من هذا البيت خرج رعد أمان، ومن مدرسة عمه لطفي أمان ووالده علي أمان تعلم فن الكلام وعشق الإعلام، فهو يعيد سيرة عمه لطفي ممازجا بين المهنة الإعلامية والشعر، فيما يتمرغ في مروج والده علي أمان بقدر غنائيته الشاعرة وبرازخه المعنوية الظاهرة. والده علي أمان صاحب ومؤسس أول مجلة فنية في الجزيرة العربية هي مجلة «أنغام» العدنية التي لعبت دورا كبيرا في خمسينات وستينات القرن العشرين المنصرم، أما الابن النجيب رعد فقد سار على درب أسلافه جامعا فرائد أحوالهم، ومناهج حياتهم، فكان خير خلف لخير سلف.

في هذا الديوان الأول للشاعر رعد أمان نقف أمام حالة من التملك المعرفي والجمالي للبيان والبديع العربيين، وبقدر وافر من الاستغوار في قاموس اللغة العربية حد الاحتياط الذي يفيض بك إلى مرابع وأوصاف وأسماء وتضاريس أخرى للمعاني. لا يتوارى الشاعر وراء غلالات الغموض الحداثوي، بل يشهر بيان انتمائه النسيجي للشعر العربي القادم من أساس التاريخ وتضاعيف أحواله المترعة بالنفائس والدرر، ولا يساوم في موسيقى الشعر العربي الراكز في التفعيلة والقافية، معتبرا تلك المحطة جوهرا أصيلا وأساسا مكينا للشاعرية المموسقة برسم البيان والموسيقى الشعرية، والمجازة بصك غفران الأدب العربي العتيد. يقول في هذا المعنى:

عاند زمانك واتبع رسم من بانوا

فليس شعرا سوى شعر الأُلى كانوا

واهجر بلاقع نثر الناثرين هبا

تنزّه الشعر، لا كانت ولا كانوا

هذا البيان الناصع الواضح يميد بنا إلى مدى الشعر الموصول بالقافية والتفعيلة، والمدوزن بلوغاريتمات الخليل بن أحمد الفراهيدي، وموسيقى الوجود، فيما يضع سؤالا عصيا أمام بعض تيارات الحداثة المتطيرة حد التخطي المنهجي لغنائية الشعر وموسيقاه، فالحاصل أن حداثة الشعر العربي سؤال كبير يفتح أبوابا ونوافذ لمناقشات كانت ومازالت تشكل ملمحا من ملامح الجدل الفكري الإبداعي المترجرج.

في أفق آخر نتبع المفهوم ونتقرّى زمن الإبداع الشعري الذي يتجاوز المفاهيم التقليلدية للزمن الفيزيائي، فالشاعر باق يتحدى العوابر والشوارد قابعا في أثير الدهر.. يقول:

ذلك الشاعر باق في المدى

يتحدى كالخلود الحقبا

هو كالنجم مُشع كلما

أقبل الليل وأرخى الحُجُبا

والحاصل أن زمن الإبداع هذا ليس قادما من سماء المفهوم فحسب بل من كيمياء الكلام، فما لم يكن الشعر حمّال أوجه، وما لم يكن مفارقا لتقليدية الأيام وثوابت المرئيات، وما لم يتقمص حالة المعنى في اللا معنى، والبناء النسقي في الفوضى، والمعقول في اللا معقول.. ما لم يكن الشعر كل ذلك فإنه يتحول إلى ضرب من الكلام المنظوم، وهنا الفرق الجوهري بين الشعر المصنوع والشعر الصانع، فالشاعر الحقيقي هو ذلك الذي «نثر الشعر وأشعر النثر» كما قال البردوني.

ونتجول مع رعد في مروج الجمال الطبيعي فيخاطبنا:

قف بذاك الجمال في مهرجانه

هل ترى غير وارفات جنانه؟

وتاليا ننساب مع أنساق جديدة حيث التوقيع على الكلام يتماهى مع تفاعيل متغايرة تتناوب تدوير الأبحر، وتبحث عن بناء ينتظم النص بطريقة مرنة، ولوازم تفسح الباب لغنائيات شفيفة مموسقة، ففي قصيدتي (لم) و(قم ودع الأشجان) نتكشف بعداً آخر عند الشاعر.. ذلك البعد الذي يضعنا في توليفة غنائية نصيّة محفوفة بتناويع التفاعيل، والجملة الشعرية القصيرة المزهوة بلغة الموسيقى المجردة.

بهذا القدر من التدويرات النسقية المحكومة بمفتاح (صول) القصيدة العربية التاريخية نتهادى مع قصائد الشاعر، ونتقلب معه في جمرات المعاني تارة، وأحوال الوجود وحيرة الأيام تارة أخرى، ونسمعه يقول:

عدت يا ليل، تُرى من أطلعك؟

عدت بالماضي، بلا وعد معك

ويتصاعد القلق الوجودي والأسئلة النافرة حتى كأن الشوارد تشعل مضجع الرائي ويصبح القلق قريبا من تخوم المتنبي «على قلق كأن الريح تحتي».. يقول:

أرقتُ وما بي من علّة سوى الشعر تبهتُ ألوانُهُ

وينأى ورا شفق داكن كئيبا يواسيه شيطانُهُ

وبهذا القدر من التداعيات تتقافز الأبيات واحدا تلو الآخر، وتتبارى النصوص نصا يوالي نصا، وفكرة تتخاطر مع أخرى مغايرة.

يقدم لنا الشاعر في أول مجموعة شعرية مطبوعة حالة من التجوال البديع في تضاريس اللغة، ومدهشات النحت على الكلام، ومشقة التنكّب الدائب، حتى كأن قول الأعرابي الذي سمع بعض المتأدبين في العصر العباسي ينطبق عليه بامتياز، وتتلخص القصة في أن أعرابيا سمع بعض المتأدبين في بغداد، ولم يعرف ما يقولون، وعندما وصل إلى مرابع قومه قال: لقد سمعت قوما يتحدثون بكلام من كلامنا وليس بكلامنا!!

والشاهد في هذا القول أن لغة الشعر ليست كلغة النثر السيّار، وأن تضمينات المعاني في الشعر تتبدى من خلال فجوات سالكة للخيال الجموح في التأويل، وأن «أعذب الشعر أكذبه»، والمقصود هنا:

المخاتلة الإبداعية التي ترهن المعنى بالمعنى، والمرئي بالغائب، والملموس بالمجرد كما كان يقول أبو نواس:

غير أني قائل ما أتاني

من ظنوني مُكذّب للعيان

آخذ نفسي بتاليف شيء

واحد في اللفظ شتى في المعاني

قائم في الوهم حتى إذا ما

رُمته رُمت مُعمى المكان

في هذا الديوان استدعاء وتمثّل مؤكد لثقافة شعرية لغوية تتقاطع مع ديوان الشعر العربي، مع التمسك بروحية الإحياء النهضوي دونما تفريط بعوامل العصر ومتغيراته.

يبشر (رعد) بانزياحات لا نراها الآن، ولكنّا نستوهمها قابعة في مكان ما خارج الماثل. وتلك نواميس الإبداع. قول على قول، ودوائر تنزاح من بعضها البعض، وأفكار تتقدح من ركام الخرائب والمشقّات والحيرة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى