السينما ومدرسة نجيب الريحاني

> «الأيام» وليد خليل سيف:

> إلياس نجيب الريحاني (1889 - 1949م) المشهور بنجيب الريحاني ولد لأب من أصل عراقي مسيحي وأم مصرية قبطية. نشأ في القاهرة (في منطقة باب الشعرية) فعاشر الطبقة الشعبية البسيطة والفقيرة. كان طفلاً انطوائياً وخجولاً في المدرسة الابتدائية التي لغتها الرسمية الفرنسية مما أتاح له فهم هذه اللغة وتطويعها لعقليته الصغيرة انه سيكون ذا شأن في مضمار الفن المسرحي وبعد ذلك السينمائي، وفي أثناء تعليمه ظهرت عليه بعض الملامح الساخرة وتأثر بوالدته وأخذ منها الكثير فهي كانت ساخرة ايضاً من تلك الأوضاع في ذلك الوقت.

كان ثائراً وفيلسوفاً ساخرا لا تخلو مسرحياته وأفلامه من بعض الأفكار الاجتماعية والسياسية الناقدة التي فيها كوميديا صارخة من المنطلق (شر البلية ما يضحك). انجذب نجيب الريحاني للمسرح وهو صغير واشترك في نصوص من المسرح الفرنسي مع صديقه عزيز عيد حينما التحق موظفاً بالبنك الزراعي 1906 وعملا معاً في أدوار صغيرة بعروض الفرق الفرنسية الزائرة، وفي عام 1907م انضم لفرقة عزيز عيد التي كونها ولكنه لم يستمر بها وفصل من البنك لعدم انتظامه في العمل.

عين بعد ذلك بشركة السكر بنجع حمادي بالصعيد عام 1910م وفصل منها بسبب مغامرة عاطفية.

نجيب الريحاني الضاحك الباكي (عمدة كوميديانات) الشرق الاوسط تقلب في الوظائف ولكنه فضل الإقامة في القاهرة أخيراً ليكون قريباً من الأنشطة المسرحية، وفي عام 1914م التحق بفرقة جورج ابيض ولكن وجده لا يصلح للتمثيل فاستغنى عنه ورجع مرة أخرى إلى فرقة عزيز عيد في يونيو 1951م ولم يستمر طويلاً.

كان معتزاً بشخصيته كفنان وتجلت عبقريته في بساطته وتلقائيته لأنه كان صادقا في تجسيد شخصيات مسرحياته وأفلامه فيما بعد النابعة من بيئته الشعبية القريبة منه منذ الطفولة والتي لم يتخلّ عنها قط.

استمر في تقديم الأعمال المسرحية الاستعراضية الغنائية حتى انتهاء ثورة 1919م ، فتوجه إلى لون أرقى وهو الاوبريت لتوفر عناصر الدراما من قصة وشخصيات وأحداث مترابطة ومساحة للكوميديا، وكانت بدايته (العشرة الطيبة) التي قدمها عام 1920م اقتباس محمد تيمور وتلحين سيد درويش.

في عامي 1923 - 1924م كتب مع صديق عمره وزميله بديع خيري اوبريتات اعتمدت معظمها على قصص (الف ليلة وليلة) مثل: الليالي الملاح، البرنسيس، الشاطر حسن، أيام العز، الفلوس، لوكنت ملك، وأسند دور البطولة النسائية لزوجته الراقصة السورية بديعة مصابني التي أنجبت له ابنة واحدة.

في الفترة (1926 - 1931م) حاول أن ينافس عميد المسرح العربي يوسف وهبي بتقديم اللون الميلودرامي ليؤكد أنه قادر على أداء ألوان جادة غير الكوميدي فقدم (المتمردة ثم موفانا) عام 1929م ولكن الجمهور لم يتقبل الريحاني في هذا الاتجاه الميلودرامي الذي كان وقتها نجماً للكوميديا ومتألقاً فيها فقدم بعد ذلك هزليات غنائية استعراضية واشتهر بشخصية كشكش بيه، ومن مسرحياته في تلك الفترة حتى 1931 : مملكة الحب، يوم القيامة، آه من النسوان، ياسمينة، نجمة الصبح اتبحبح، مصر باريس نيويورك، اموت في كده، عباسية .

وتعتبر الأعوام 1932 حتى 1949م هي مرحلة النضج الفني لـ (سي نجيب الريحاني) كما كان يدعى وأتى بشخصيات متنوعة من صميم المجتمع بقيت شخصيات اساسية في أعماله الفنية الراقية التي استمرت حتى وفاته في تقديم أعماله السينمائية والمسرحية وان كان قد اعتزل المسرح عام 1946م، وقد ظهر الريحاني في تلك المرحلة كإنسان شريف نزيه متمسك بالقيم على درجة من الدهاء والثقافة ولكنه يائس مفلس وفقير وسيئ الحظ مؤمن بالقدر وخفيف الظل ساخر من الفساد وأوجه الزيف والخداع والمظهرية الجوفاء في المجتمع.

من أهم مسرحياته التي شاركه فيها صديق عمره بديع خيري:

- مسرحية الجنيه المصري - 1931م والتي كانت نقطة تحول في حياة الريحاني ككوميديا اجتماعية تناولت تأثير المال وكيف يفسد الضمائر وينتهك الأخلاق والمبادئ.

- الدنيا لم تضحك 1934م.

- الستات مايعرفوش يكدبوا وحكم قراقوش وقسمتي عام 1936م.

وفي هذه المسرحيات يقدم شخصيات (بندق ابو غزالة) الذي يسخر من قيادات الدولة المتخلفة في حكم قراقوش، ثم (تحسين) المدرس البائس في مسرحية قسمتي. وشخصية (شحاتة) الكاتب الداهية في إدارة الوقف في (لوكنت حليوة) 1938م. وشخصية (أنور) الموظف الصغير في مواجهة فتاة ثرية رعناء أفسدها التدليل في (الدلوعة) 1939م.

ثم (سليمان) المحامي المفلس الباحث عن كنز في قصر تتحكم في شؤونه عجوز تركية تعيش في الماضي وذلك في مسرحية (إلا خمسة) 1943م. ودور عباس في مسرحيته (حسن ومرقص وكوهين) 1945م التي تعرفنا عليها من خلال الممثل المسرحي المبدع عادل خيري ابن (بديع خيري) الذي أعاد تجسيد أدوار نجيب الريحاني في تلك المسرحيات ولعل أشهرها (إلا خمسة) و(حسن ومرقص وكوهين) وكانت معه في تلك المسرحيات الممثلة المسرحية والسينمائية المبدعة ماري منيب، وقد وافته المنية وهو في ربيع عمره.

وقد لا نجد مسرحيات نشاهدها لنجيب الريحاني مثلاً لأن تلك الفترة لم تكن تنقل المسرحيات لعدم وجود التلفزيون إلا أنه ترك مكتبة سينمائية قد لا تكون ضخمة مثل فنانين آخرين صنعوا أفلاماً عديدة، ولكن نجيب الريحاني بالكيفية التي صنعها للسينما في أفلامه يعد مدرسة كثّف فيها الخط الكوميدي الانتقادي الراقي الهادف، وخفف من الاسلوب الهزلي الذي لا يخدم غاياته، وخصوصاً في المرحلة الأخيرة من حياته، أما عدد أعماله السينمائية فقد كانت بحدود العشرة أفلام وهي:

- صاحب السعادة كشكش بيه- 1934م.

- حوادث كشكش بيه /ياقوت افندي 1934م.

- سلامته عايز يتجوز 1936م.

- سلامة في خير 1937م.

- ابو حلموس /لعبة الست /سي عمر 1941م.

- احمر شفايف / غزل البنات - 1949م.

ويعد فيلمه الاخير غزل البنات من اجمل افلامه التي شاركه فيها نخبة من نجوم مصر أمثال: يوسف بك وهبي وأنور وجدي وليلى مراد ومحمود المليجي وفريد شوقي والموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب بموسيقاه وألحانه وأغنيته (عاشق الروح).

ملك كوميديا الشرق والوطن العربي بلا منازع نجيب الريحاني صنع مجده بأسلوب متميز نابع من البساطة ومعاناة الإنسان في كل مكان وزمان، وهو العاشق خفيف الظل صاحب القيم والأخلاق الحميدة الساخر من الطبقات المتعالية والفاسدة، وهو الفقير المحتفظ بكرامته والمعتز بنفسه الباكي الضاحك كشكش بيه فقد ظهر ايامه ومن بعده تلاميد بنفس الاتجاه الكوميدي في المسرح والسينما، ومنهم من حذا حذوه وآخرون ظهروا وبرزوا كنجوم كوميديا استطاعوا أن يتميزوا كل بأدائه وأسلوبه الفني بداية في أدوار سينمائية أو مسرحية ثانية أو كسنيد للبطل كما نسميهم يضفون على الفيلم السينمائي البهجة والسرور حتى صاروا مع مرور الزمن وبعد عدة أفلام عرفها فيهم الجمهور السينمائي في أدوار البطولة المطلقة أمثال: فؤاد المهندس إسماعيل ياسين، عبد السلام النابلسي، عبد المنعم مدبولي، عبد المنعم ابراهيم، عادل إمام، ماري منيب وغيرهم العديدين.

ولعل أبرزهم وأقربهم إلى نجيب الريحاني ولازمه في العامين الأخيرين من حياته هو الفنان الممثل المسرحي السينمائي فؤاد المهندس الذي تعلم منه الكثير وأصبح سفير الكوميديا العربية حامل لواء الفكاهة الاجتماعية في عقد الستينات من القرن الماضي، فقد سار المهندس على درب أستاذه الأول نجيب الريحاني حيث قال له بعد أن شاهده من خلال ملازمته له في العامين الأخيرين من حياته: «أنا أثق تماماً في قدراتك وموهبتك ومقتنع بأنك ستكون خليفتي ولكن يجب أن يكون لك شخصيتك المستقلة وأداؤك المختلف .. كن رجلاً ولا تتبعني!».

وظهر مع المهندس في تلك الفترة نجوم للكوميديا مثل عبدالمنعم مدبولي الذي شكل مع فؤاد المهندس ثنائياً لعدة أعمال فنية في المسرح والسينما، وبرز الفنان الكبير عادل إمام بعد ذلك مع فؤاد المهندس، كما ظهر نجوم آخرون كثلاثي أضواء المسرح سمير غانم وجوج سيدهم والضيف أحمد وكذلك أمين الهنيدي ومحمد عوض وغيرهم. وفي مرحلة السبعينات والثمانينات برز وتميز عادل إمام وأصبح يحمل الراية واستمر حتى يومنا في تقديم الأعمال الفنية الراقية وقبله كان إسماعيل ياسين الذي كان صاروخاً كوميدياً مميزا هو الآخر وعمل سلسلة أفلام حيث كان نجم شباك الخمسينات والستينات، وكان معه في تلك الفترة أيضاً عبد السلام النابلسي وعبدالمنعم ابراهيم وماري منيب وغيرهم والذين كانت لهم علامات بارزة في السينما العربية في مصر، أما في سوريا فقد كان النجم دريد لحام يشكل نفس الحالة لتلك المدرسة الراقية منذ ذلك الوقت في الستينات وحتى يومنا هذا.وهنا نقف وقفه تاريخية للسينما في اليمن وخاصة في عدن حيث كان الجمهور يشاهد تلك الأعمال السينمائية لنجيب الريحاني وتلاميذه من بعده من خلال دار عرض سينما (هريكن) في كريتر/ عدن التي يمتلكها السيد طه مستر حمود وكان موقعها في منطقة (القطيع) بعدن أوائل ثلاثينات القرن الماضي وكانت وقتها صامتة ثم انتقلت إلى منطقة (الخساف) منتصف الثلاثينات وكانت حينها ناطقة، وبذلك تكون اليمن من أوائل الدول العربية التي عرفت السينما وبخاصة عدن.

وما زلنا نشاهد ونستمتع حتى يومنا بتلك الأعمال التي أثرت مكتبتنا العربية السينمائية لأرقى فن جسده لنا شخصية صنعت كوميديا هادفة وفلسفة في الحياة تعالج قضايا إنسانية تحمل مبادئ وقيما هي مدرسة (نجيب الريحاني).

[email protected]

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى