الحديدة وصورة (بولوك) البريطاني

> «الأيام» هاجع الجحافي:

>
الأسبوع الماضي اتجهت الى منطقة عصر بصنعاء ومن حسن حظي أن سيارة أجرة ذاهبة إلى الحديدة كانت بحاجة إلى راكب واحد فقط بعد أن امتلأت مقاعدها بالركاب.

انطلقنا عصرا على ذلك الطريق المتعرج نلاحق الشمس في أفق الغروب البعيد، ولفت انتباهي انتفاخ أشداق السائق وبعض الركاب بالقات فتذكرت قصة رحلة الصحافي البريطاني (جون بولوك) والصورة التي كان يبحث عنها رئيس تحرير «ديلي تلغراف» في الطريق بين الحديدة وصنعاء، وهي بالتأكيد تختلف عن الصورة التي ذهبت للبحث عنها في سهل تهامة.

(جون بولوك) الذي عمل لسنوات في الشرق الأوسط مراسلا لصحيفة «ديلي تلغراف» البريطانية كتب قبل سنوات عن رحلة قام بها إلى اليمن عام 1970م بدأت من عدن ثم الحديدة إلى صنعاء وانتهت في السعودية، وقال إنه «أسبوع غير عادي» بالنسبة له .. يقول «ركبنا الطائرة من عدن متوجهين إلى الحديدة، ثم استقلينا سيارة أجرة بيجوستيشن واغون صعودا إلى صنعاء على طريق لا يزال تحت الإنشاء بإشراف المهندسين الصينيين، وكانت المناظر خلابة.. بدأنا رحلتنا مبكرين حسب نصيحة بعض الروس في معسكر يبدو أنه عسكري يعلم الله الغرض من وجوده، وإن كانت الشائعات تقول إن الأسلحة لمختلف الفئات المنشقة في الوطن العربي تمر من هناك قادمة من الصين، وأدركنا السبب في فضيلة السفر مبكرين عندما انتصف النهار، وتوقف السائق على جانب الطريق ومشى مع عدد آخر وأخذ ينتقي بعناية مجموعة من أوراق الشجر. وكانوا جميعا على وشك الاستمتاع بإحدى العادات المحلية إذ كانوا يشترون القات، وعندما أكملنا رحلتنا إلى صنعاء أدركنا سبب التصرفات غير الاجتماعية التي بدرت من السائق وقد انتفخ شدقاه بالقات من حيث عدم الاهتمام، وهو لم يكن كذلك عندما بدأت الرحلة».

وخلص بولوك في مقاله الطويل إلى القول «كان المصور أكثر حظا مني، فالمقال الذي كنا نكتبه للمجلة التي تصدرها صحيفة «الديلي تلغراف» كان سينشر مع صور بالألوان وقد أشرت في المقال إلى وجود المهندسين الصينيين على طريق الحديدة صنعاء إلا أننا لم نتمكن من الحصول على صورة لهم، ومن الطبيعي أن تكون الصورة المفقودة هي التي يريد رئيس تحرير المجلة نشرها بصفة خاصة. وهكذا كان على المصور أن يعود أدراجه إلى اليمن الشمالي ويقضي أسبوعا هناك من أجل صورة واحدة نشرتها المجلة على غلافها. اليوم ومع ما تتمتع به الديلي تلغراف من ازدهار يراودني الشك في أن أي محرر يمكنه أن يصرف من أموال صاحبها كونراد بلاك بمثل الحرية كمتعتنا بها في رحلتنا اليمنية».

بالنسبة لي وبعد أن وصلت مدينة الحديدة مساء، وانشغال خاطري برحلة جون بولوك قبل 37 عاما، بقيت هناك اسبوعا وتنقلت بين مختلف مدن تهامة بحثا عن مواد صحفية وصور قد تخدمني في أعمال صحفية قادمة.

قد لا يختلف الطريق المتعرج بين الحديدة وصنعاء وقد لا يختلف السائقون والركاب في تناول القات، ولكن الشيء المؤكد أن بولوك لو عاد ثانية لوجد حياة جديدة في عروسة البحر الأحمر، رغم كل ما قد يقال عن بساطة وأحوال أهلها، ولا بد أن متعته ستكون اشمل وأروع من متعته التي تحدث عنها منذ ما يقارب الأربعة عقود، وهو بالتأكيد لو عاد - إن كان مازال حيا - فلن يتردد أن يبدي إعجابه الشديد بمحافظها الشاب محمد صالح شملان وما يقوم به من جهود خلاقة للارتقاء بهذه المدينة الجميلة والمحافظة الواسعة الخيرة، التي عانت الإهمال في حقب سابقة، وما من شك أن عروسة البحر السمراء قد وجدت العريس الذي استحق بجدارة أن تمنحه قلبها وأن تظهر جمالها وفتنتها وتجود بخيراتها أكثر من أي وقت مضى.

قد يقول قائل إن الفقر هناك أكثر انتشارا، فأقول إن أحدث تقارير التنمية البشرية العربية أوردت أن لحج وعدن وتعز وإب تحتل المراتب الأولى في الفقر، وهذا ما سمعته أيضاً من د. عبدالله الفقيه في ورقة عمل قدمها خلال ندوة سياسية اقتصادية قبل عدة أسابيع.

هذه المرة وبعكس زيارات سابقة كثيرة لي عدت من الحديدة بصور وانطباعات كثيرة، فرغم أن هذه المدينة لا تختلف عن غيرها من المحافظات من حيث هموم ومشاكل الأراضي وانطفاءات الكهرباء في بعض الأحياء وارتفاع الأسعار ومتاعب المعيشة، إلا أن مؤشرات ومميزات ملموسة تستحق أن يشار لها بالبنان تعكس خصوصية ما يعتمل هناك.

من هذه الصور اهتمام الناس بتربية الماشية، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال انتشار مزارع أبقار وماشية عديدة في بيت الفقيه وزبيد والمراوعة وغيرها من مناطق المحافظة، إلى جانب ازدهار زراعة وتجارة الفل وتنامي حركة الاصطياد وتوجهات الرأسمال الخاص لإقامة صناعات استراتيجية غذائية وسياحية وصلبة ونفطية على ضفاف البحر الأحمر.

سمعت الكثير عما يقوم به المحافظ الشاب شملان وكنت أتمنى أن ألتقيه إلا أنه لم يكن متواجدا هناك نظرا لوفاة أحد أقاربه، وسنحت لي الفرصة للقاء بعض أعضاء المجلس المحلي بالمحافظة ومنهم الأمين العام الشيخ حسن أحمد الهيج ورئيس لجنة التخطيط والمالية أحمد شعبين ورئيس مؤسسة المياه محمد عبدالعزيز ومدير صندوق النظافة وديع سيف أحمد.. سمعت منهم أرقاما وخططا وبرامج لمشاريع كثيرة نفذت وقيد التنفيذ في مختلف المجالات، وبكل شفافية كان يمكن الاطلاع على الوثائق في المكاتب والمشاريع على طبيعة الأرض .. لقد تمكنت المجالس المحلية هناك من إنجاز 2070 مشروعا خلال 2001-2006م وبعضها قيد التنفيذ بتكلفة إجمالية تزيد عن 205 مليارات ريال في التربية والتعليم والصحة والزراعة والكهرباء والطرقات والاتصالات والأسماك والنظافة والمياه وغيرها من المجالات.

كما استمعت إلى هموم عديدة للمواطنين، الذين أيضا أكدوا احترامهم لما تقوم به السلطة المحلية من جهود وشكواهم مما يقوم به بعض النافذين.

صور عديدة لفتت انتباهي وتوقفت عندها كثيرا وهي بالتأكيد تمثل خصوصية لعروسة البحر السمراء. فأثناء حديث حسن الهيج وغيره من أعضاء محلي المحافظة لمست مدى تقديرهم واحترامهم للمحافظ وفخرهم بتواجده بينهم.

ونفس هذه الانطباع كان لدى العديد من رجال الأعمال هناك.. هذه الصورة تجعل الحديدة من المحافظات القليلة جدا التي استطاع محافظوها خلق علاقات احترام وانسجام مع المجالس المحلية ورجال الأعمال، وهي بالتأكيد في محافظات أخرى كثيرة علاقات صراع واختلاف وتباعد.

وصورة أخرى تتمثل باهتمام القطاع الخاص بإنشاء صناعات واستثمارات متميزة مثل الصناعات الحديدية والزيوت والإعداد لإنشاء مصفاتين بمنطقة رأس عيسى ومصنع للسكر في المنطقة الصناعية، إلى جانب ما هو موجود من صناعات غذائية هناك لعل أشهرها (يماني).

بعض الزملاء الصحفيين هناك يأخذون على المحافظ أنه لا يحب الأضواء ولا يحب أي تقارب مع الصحفيين، وربما أن ذلك جعل البعض يلجأون إلى خلق صورة مشوهة لا تعكس حقيقة ما يعتمل في المحافظة، وهذا ينعكس سلبا على أمور طيبة تبقى بعيدة عن الالتقاط والاهتمام، ومن ذلك مثلا أنني ومن خلال زيارتي لأحد المستشفيات الخاصة عرفت أن المحافظ شملان تبنى علاج الكثير من الحالات المرضية والإنسانية على نفقته الخاصة، وهذا ما أكده لي ايضا أناس أثق بهم كثيرا.

عموما هناك صور كثيرة ستبقى في الذاكرة وأخرى ستجد طريقها للنشر، منطلقة من معايير مهنية بحتة مبتعدة عن السوداوية التي جبل البعض عليها.. وفي الأخير أثق تماما أن (بولوك) لو زار الحديدة هذه الأيام.

رغم الطقس الحار لقال إنها أنظف وأجمل من العاصمة صنعاء ومن عدن التي كانت يعشقها، بل إنه قد يعود إلى الـ«ديلي تلغراف» وفي جعبته الكثير من الصور والمقالات التي سيكون الغلاف مكانها المستحق.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى