الموسيقى في قصائد الغربة للشاعر محمد محمود الزبيري

> «الأيام» صالح عقيل بن سالم:

> نلحظ أن الشاعر الزبيري قد التزم في قصائد الغربة الوزن الواحد والقافية الموحدة، عبر من خلالهما عن تجربته الشعرية، بيد أنه مال في اختيار أوزانه إلى الأوزان الخفيفة مثل (الخفيف، المتقارب، ومجزوء الرمل) وابتعد عن الأوزان الثقيلة الشائعة في الشعر الجاهلي مثل (الطويل، البسيط، الكامل) مع التزامه (التصريع) في تلك الأوزان الخفيفة كما يفعل الشاعر العربي القديم في استهلال قصائده. وربما اختار الزبيري الأوزان الخفيفة لأنه وجدها أقدر من غيرها من البحور على حمل تجاربه المرتبطة بالوطن والحنين إليه. وعلى الرغم من أن الزبيري التزم تلك الأوزان الخفيفة فإنه استطاع أن يتنقل بها من موقف إلى آخر، ويجعلها خاضعة لتجاربه، ولننظر مثلاً إلى قصيدة (حنين الطائر) التي اختار لها وزناً خفيفاً (مجزوء الرمل) واستطاع أن يعبر فيها عن تجربته لما فيها من تحول من حالة إلى أخرى داخل إطار هذا الوزن.. يقول الزبيري معبراً عن حالته الأولى:

أمل غير متاح

وفؤاد غير صاح

أنا طير حطم المقدور

عُشّي وجناحي

ورماني في نشار

من دموعي ونواحي

وحطام من بقايا

وطن غير صحاح

يعبر الشاعر في هذا المقطع عن إحساسه بالتوتر والانفعال النفسي في حركة سريعة ومتلاحقة، وذلك بالإكثار من أحرف العطف ومن الزحافات التي دخلت على تفعيلة (فاعلاتن) فأصبحت (فعلاتن) في كثير من الحالات، وربما قصد من وراء ذلك إثارة عواطف المتلقي للتجاوب معه.

غير أن الإيقاع يتغير في المقطع الثاني إذ يستخدم الشاعر من الوسائل والأدوات ما يوحي ببطء الحركة تعبيراً عن تغير الحالة:

ليت شعري هل ترد العهد

كف الاجتياح

أتعاطى منه كأس الحب

كالخمر المباح

آه لو اجتذب العش

بحبل الامتياح

آه لو يمحو مسافات

النوى والبعد ماح

إننا نرى الحركة في هذا المقطع قد بدأت تنزع نحو الثقل، نظراً لتغير حالة الشاعر التي بدأت تهدأ هدوءاً يصاحبه اليأس والضعف، ومع ذلك بقي الوزن نفسه، متماشياً مع تغير الموقف أو الحالة، إذ استخدم الشاعر كثيراً من أحرف المد في بداية بعض الأبيات مثل (آه) التي أضفت على الوزن انسياباً وامتداداً إيقاعياً يوحي بالضعف والهلع، فضلاً عن تكرار صوت القافية (الحاء) وهو صوت حلقي رخو مهموس منفتح يوحي بكثرة المعاناة والصياح.

وكما التزم الزبيري الوزن الواحد في قصائده، فقد التزم القافية الموحدة التزاماً صارماً، حيث كانت بالنسبة له جزءاً من بناء موسيقاه الشعرية، إذ جاءت قوافيه مطلقة ملتزمة الروي المكسور عدا قافية واحدة التزم فيها الروي المضموم. وقد استخدم الزبيري في قصيدتي (حنين الطائر) و(الحنين إلى الوطن) حرفي الروي (الحاء) و(النون) وهما من الحروف الشائعة بكثرة في قوافي الشعر العربي، والتزم قبلهما حرف (ألف المد)، فضلاً عن أن قوافي تلك القصائد كانت ملتحمة بالنسيج الشعري، كقوله:

زفراتي طوفي سماء بلادي

وانهلي من شعاعها الريانِ

أطفئي لوعتي بها واغمسي روحي

فيها وبرّدي ألحاني

وصلي صد جيرتي وأهلي وأحبابي

وقصّي عليهم ما دهاني

لقد مهد الزبيري لقافيته بالكلمات (طوفي/ انهلي) التي تدل على شدة الحنين والمعاناة، وكأنه وقد اشتد شوقه لوطنه كان حريصاً كل الحرص على أن يقع على مشربه العذب (الوطن).

وعلاوة على أن كلمات صدر البيت جاءت منتهية بـ (ياء المتكم) لتدل على التفرد بالتجربة ولتدل على التعب والمكابدة، وكأنه يبحث من ورائها عن راحة واستراحة، وإذا بكلمة القافية (الريان) محط ذلك.

إن ما جعل الشاعر يحسن التصرف في أوزانه وقوافيه للتعبير عن معاناته حسه الموسيقي المرهف، وهو بذلك يخالف ما اطمأن إليه د. إبراهيم أنيس حيث جعل لحالة الهلع وزناً بطيء الحركة، وجعل لحالة الخوف واليأس وزناً سريع الحركة، واللافت في التجربة بشكل أكبر هو التعبير عن كلتا الحالتين بوزن واحد، وهذا يؤكد ما ذهب إليه د. عبدالمطلب جبر حين قال: «لقد خضع الإيقاع في شعر الزبيري لتجربته الشعرية هذه، ولم تخضع تجربته للأوزان».

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى