قطار المصالحة الصومالية رحلة عبثية على مسار وهمي

> زهرة جامع صالح:

> لو كانت الأمور تحسب بالأماني، لأملنا أن ينجح مؤتمر المصالحة الوطنية الصومالية الرابع عشر المنعقد حالياً في العاصمة مقديشو، لكن المقدمات تشير إلى النتائج، فقد أرجئ المؤتمر مرات عدة، بسبب ضعف المشاركة والقذائف الصاروخية التي استهدفت مقره.

هذا المؤتمر ليس الأول من نوعه، فقد سبقته مؤتمرات ومؤتمرات في القاهرة وطرابلس وصنعاء وجيبوتي ونيروبي والخرطوم، و13 محاولة لإنشاء سلطة مركزية، بيد أن كل هذه المؤتمرات والمحاولات لم تسفر عن تحقيق الأهداف المرجوة منها، وأي هدف أسمى في الحالة الصومالية من اعادة بناء الدولة، واعادة البناء والاعمار، ولم شمل المواطنين الصوماليين الذين باتوا في الداخل تحت رحمة المجاعة والمرض والاقتتال.

أو في الخارج في برودة المنافي، ومعسكرات اللجوء في ظروف انسانية صعبة.

ليس من قبيل التشاؤم القول ان احتمال نجاح هذا المؤتمر مشكوك فيه، لأنه مجرد استنساخ فاشل لتجارب مؤتمرات المصالحة السابقة، وليس المحك بالقدرة على تجميع اكبر عدد من الوفود والممثلين لمجرد تحقيق نصر إعلامي، وخلق بريق كاذب، بل العبرة بالقدرة على العمل بروح المصالحة الوطنية الحقيقية من أجل استرداد وطن، واستعادة هوية، ورتق فتق أرض تشرذمت وتقطعت وتشرد أهلها في الاراضين، وسط تجاهل عالمي، ونفاق دولي، وتدخلات اقليمية سافرة، وأياد خفية من وراء البحار تعبث لتحقق أجندة مدعاة.

إن تاريخ الصومال خلال الأعوام الستة عشر الماضية يدور في الحلقة المفرغة نفسها: مؤتمر، انتخاب رئيس وبرلمان، عدم قبول آخرين، انشقاق، اندلاع قتال، استعانة بأجنبي مباشرة، وغير مباشر، ثم تتكرر الحلقات المفرغة في السلسلة العبثية من دون نهاية، التاريخ في الصومال يعيد نفسه بشكل دائري ممل.

فالبداية مثل النهاية، بعد سقوط نظام الرئيس الراحل محمد سياد بري، انتخب محمد فارح عيديد في يونيو1991 رئيساً في المؤتمر الصومالي المتحد بأغلبية الثلثين، لكن علي مهدي رئيس لجنة مؤتمر المصالحة الحالي، رفض التنازل عن الرئاسة، بل شكل حكومة من 8 وزراء وحصل على دعم مالي ايطالي كثيف، فاندلعت الحرب الأهلية، وانحصر علي مهدي في جزء من مقديشو، وتصدى عيديد لأمراء الحرب في الجبهة الجنوبية العنيفة التي تفشت فيها المجاعة.

واستطاع عيديد الحصول على مساندة ست قبائل رئيسية في الشمال والوسط وتبنت النظام التقليدي المعروف باسم “هير” وبرزت جبهة عيديد قلباً لهذا التحالف بعد الحرب الأهلية الضارية.

بيد أن الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي الذي كان يريد دوراً واضحاً للمنظمة الدولية فتح الباب لتدخل مجلس الأمن الذي اعتبر البلد فوضى، وعيديد مطلوباً والاسلحة مشكلة، ثم قرر احتلال الصومال عسكرياً ونزع سلاح السكان، لكن تدخل الأمم المتحدة تسبب في زيادة وتيرة العنف، وأثار القبائل التي هبت للدفاع عن نفسها والحفاظ على انظمتها التقليدية، وتورطت قوات الأمم المتحدة في النزاع، وبدلاً من أن تكون جزءاً من الحل، اصبحت جزءاً من المشكلة، وخلال أربعة أشهر من مطاردة عيديد قتلت القوات الأمريكية والدولية اكثر من 10 آلاف صومالي ثلثاهم من النساء والاطفال.

كما فقدت هذه القوات عشرات من جنودها لتخرج القوات الأمريكية تلعق جراحها في مارس 1994 وبعدها بعام تبعتها القوات الافريقية والآسيوية التابعة للأمم المتحدة.

وعاد الصوماليون إلى أنفسهم وعقدوا مؤتمر مصالحة في يونيو 1995 اطاح عيديد من الرئاسة ليحل مكانه حليفه السابق عثمان حسن علي عطو، فرفض عيديد الاعتراف بشرعية المؤتمر رغم مشاركته فيه، وأسس جبهة جديدة وسيطرة على بيداوا في الجنوب، لتبدأ بعد ذلك دويلات امراء الحرب الصغرى في الجنوب والوسط، وبروز النزعات الانفصالية، في ارض الصومال وبنط لاند، ولم تحظ جهود الجامعة العربية وبعض دولها مثل مصر وليبيا واليمن للوساطة من أجل تحقيق المصالحة، بالقبول من أمراء الحرب.

وغامرت جيبوتي برعاية أول مؤتمر واسع للمصالحة أسفر عن انتخاب رئيس وحكومة وبرلمان مؤقت، وتوفرت فرصة لبدء تحول تاريخي في مسار الأحداث، لكن تجمع أمراء الحرب الذي ارتهن ارادته لإثيوبيا رفض الامتثال للارادة السياسية الجديدة الناشئة، التي كانت من العقل والحكمة بمكان، ورفضت استخدام القوة لفرض الأمر الواقع.

ثم كان أطول مؤتمر من نوعه للمصالحة في كينيا، والذي أسفر بعد عام ونصف العام عن السلطة الحالية بقيادة الرئيس عبدالله يوسف الانفصالي السابق الذي كان أحد أسباب فشل حكومة الرئيس الأسبق أبو القاسم حسن صلاّد، الذي أبدى حرصاً على اعادة بلده الى الحظيرة العربية والاسلامية والافريقية والدولية، وبدأ مشواراً حقيقياً لإعادة بناء الدولة ومؤسساتها، أفسده وعرقله أمراء الحرب الذين يرفعون اليوم راية المصالحة والوحدة بعد أن عادوا إلى مقديشو تحت حراب الجيش الاثيوبي والدعم المادي الأمريكي، في اعقاب الهزيمة المنكرة التي ألحقتها المحاكم الاسلامية بهم في ديسمبر ،2006 لقد ارتكبت الحكومة الصومالية خطأ فادحاً باللجوء إلى أثيوبيا وامريكا لاستدامة سلطتها بوجه خطر المحاكم الاسلامية، ومزاعم الملاذات الآمنة لتنظيم القاعدة في القرن الافريقي، الأمر الذي حول البلاد إلى ساحة لتصفية الحسابات الدولية والاقليمية.

هل يملك أمراء الحرب الذين فروا مثل الجرذان المذعورة في أواخر العام الماضي، حلاً للمشكلة الصومالية التي تعمقت وتفاقمت بسببهم؟ إن أمراء الحرب قصيرو نظر، لا تبعد رؤيتهم للأمور اكثر من مهوى أنوفهم، فليس لديهم أجندة سياسية، أو مشروع وطني، بل يحكمهم مزاج شخصي متقلب، وهم مستعدون لفعل أي شيء من أجل استدامة سيطرتهم وبقائهم، وغير مستعدين للدفاع عن الصومال الوطني وأهله، وهم ليسوا اضافة للصومال يعتد بها، بل عبء عليه، وهم انفصاليون سبق أن رفضوا الوحدة، فكيف يريدون امضاء وضع رفضوه، وهم الذين اعلوا النعرة القبلية وتماهوا بها، ولم يبدر منهم أي استعداد للتنازل عن مصالحهم الشخصية الضيقة من أجل المصلحة الوطنية الأوسع، وهم الذين سرقوا المال العام ونهبوا ممتلكات الدولة السابقة بوضع اليد، وأباحوا للشركات الأجنبية نهب الموارد الطبيعية للبلاد مقابل المال والسلاح.

إن المصالحة الوطنية ليست قطاراً في محطة البداية ينطلق بمن ركب الآن وافتقد مقعده، رغم أن هذا القطار انتظرهم 16 عاماً ولم يتحرك بدونهم، فلماذا يريدون أن يكونوا الركاب الوحيدين دون انتظار للآخرين؟ ولماذا يصرون على أن تكون وجهة الرحلة إلى محطة نهائية ليس لها مسار حديدي يوصل إليها؟ إلا إذا كانت هذه الرحلة عبثية، ولمجرد الترفيه والترويح واقناع العالم أن القطار يتحرك.

إن المصالحة الوطنية الحقيقية تكون بين خصوم متساوين من دون شروط، من دون تدخل خارجي أو استقواء بأجنبي، من دون تهميش أو إقصاء. ولن تقوم دولة من الصفر إلا بعقد سياسي واجتماعي جديد، وحكومة انتقالية يديرها تكنوقراط للنقاهة من أمراض الحرب والنهب والقتل واستباحة كل شيء، واعادة بناء مؤسسات الدولة على اساس وطني، ولم الشمل واستعادة الكوادر وتطبيق أجندة وطنية خالصة، ووقف التدخل الاجنبي والاستقواء بالخارج، واعادة رتق اللحمة الوطنية بالتراضي، واعادة البناء والاعمار وتوفير الخدمات العامة للمواطنين، وعقد مؤتمر دولي للصومال تحت رعاية الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية والاتحاد الافريقي والاتحاد الأوروبي لتأكيد ارادة دولية على استنقاذ الصومال من الفوضى والتجارب الفاشلة والحلقات الجهنمية من السلسلة الاستنساخية العبثية.

كاتبة صومالية مقيمة بالامارات

عن «الخليج» الاماراتية1 أغسطس 2007

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى