المتقاعدون والمسألة الحمارية

> محمد سالم قطن:

> أشهر القضايا التي تستأثر باهتمامات الناس في بلادنا، هذه الأيام، قضيتان. الأولى هي قضية الارتفاع المتواصل في الأسعار، وما أفرزته من إرباك غير مسبوق في ميزانية كل أسرة جعل من العسير على غالبية هذه الأسر أن توفر الحاجات اليومية الضرورية لأفرادها، والثانية هي قضية الغبن الذي لحق بالمتقاعدين الذين أفنوا زهرات شبابهم في خدمة الوطن عطاءً وكدحاً في سائر المرافق ومختلف المجالات.

ولعل في الخروج الجماعي للآلاف من المتقاعدين، العسكريين منهم والمدنيين، إلى الشوارع والساحات في مسيرات ومهرجانات واعتصامات، خلال الأسابيع الماضية للتعبير عن فراغ صبرهم وتطاول مظلمتهم، ما يشير إلى صحة المقولات التي قالت بها العرب قديما: «لابد للمصدور أن ينفث»، وقالت أيضا: «ما ضاع حق وراءه مطالب».

وبعيدا عن (ساس) و(يسوس) وعن كل لفظ دخلت فيه كلمة (سياسة)، أقول إن القيادة السياسية في بلادنا قد أحسنت صنعاً، عندما أعلنت عن نيتها الطيبة ورغبتها المشكورة في رفع تلك المظالم عن كل المتقاعدين و(المقعدين) وأصدرت من أجل ذلك القرارات وكلفت من المسؤولين والوزراء، لدراستها وحلها، من يتمتع بصفات الدراية والكفاية. ولعل في كوني متقاعداً مدنياً ما يعذرني في الاكتفاء بذكر اثنين من هؤلاء الوزراء شهد لهم تاريخهما الإداري بالدراية والكفاية هما الأخوان عبدالقادر علي هلال، وزير الإدارة المحلية وحمود خالد الصوفي، وزير الخدمة المدنية والتأمينات. الأمر الذي جعل الكثير من المتقاعدين المدنيين، خاصة أولئك الجنود المجهولين من المعلمين حملة رسالة التنوير ومشاعل المعرفة الذين اشتعلت رؤوسهم شيباً ووهنت أجسادهم سعياً خلال العقود الأربعة الماضية وهم يكافحون الجهل ويبنون الأجيال في مهنة شاقة وممارسة عسيرة..جعلهم يشعرون ببعض الأمل في أن الوقت قد حان لإنصافهم من مظالم التقاعد وبؤس التقعيد، إذ إنهم وجدوا أنفسهم ضحايا مهنتهم مع احتساب مرتبات تقاعدهم، لدرجة أن الجامعي منهم يحصل في تقاعده على مرتب يساوي نصف أو ثلث المرتب التقاعدي لموظف آخر في مستوى الثانوية العامة كان حظه أنه عمل في مرفق آخر من مرافق (كاملة الدسم) في الدولة نفسها والبلد ذاته.

إن حالتهم التقاعدية البائسة أشبه في كثير من أحوالها بالحالة المعروفة فقهياً بالمسألة الحمارية في قضايا الإرث وعلم الفرائض. فقد حدث أن توفي شخص لا أولاد له، وانحصر إرثه بوالديه وأخوته وكان من بينهم أخوة أشقاء وأخ لأم، ولما كان المبدأ المشهور في الفرائض يقضي بأن أصحاب الفرائض (وهم هنا الوالدان والأخ لأم) يرثون أولاً، وما زاد على ذلك يقتسمه العصبات، وعندما جرت القسمة استغرقت حصص أصحاب الفرائض؛ الوالدان والأخ لأم التركه كلها، ولم يتبق شيء لأخوة المتوفى الأشقاء، وهم من العصبات. لقد شاء الله سبحانه أن تحدث تلك الواقعة في عهد عمر بن الخطاب، حيث ذهب الأخوة الأشقاء إلى ذلك الخليفة العادل يشرحون مسألتهم ويبثون شكواهم، قائلين له: هب أن أبانا كان حماراً !! أليس أننا جميعا أخوة؟ وقد اجتهد الفاروق رضوان الله عليه بأن وزع فريضة الأخ لأم على جميع الأخوة. ومنذ ذلك اليوم صار هذا الاجتهاد مسلكاً متبعاً عند أغلب المسلمين ودخلت تلك المسألة في كتب علم الفرائض تحت اسم المسألة الحمارية!!

وإذا كان الله قد هيأ قديما لتلك المسألة الفرائضية عالماً حكيماً بمقاصد الشرع ومتطلبات العدل فإن المتقاعدين منا اليوم يتوجهون إليه تعالى أن يهيئ لمظلمتهم تلك ومسألتهم هذه حكومة رشيدة ووزراء أكفاء ولجاناً عادلة!!

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى