كبر الوبري (3)

> ريم عبدالغني:

>
في المثل اليمني: من يكذب يوصله كذبه إلى «وادي عذيبة» (بمعنى أن حبل الكذب قصير)..وها نحن قد وصلنا «وادي عذيبة»، وبئره العذب المشهور غرب شقرة، مع أننا لم نكذب في روايتنا لتفاصيل رحلتنا من عدن إلى أبين والتي أتابع هنا مشاركتكم إياها.

بدأت تلوح في الأفق البعيد، على يسارنا، الجبال الداكنة البركانية وهضبة أبين التي ترتفع ثلاثة آلاف قدم عن سطح البحر.

لم يمض أكثر من نصف ساعة من زنجبار، وبعد عبورنا (قرن امكلاسي) بقليل (وهوجبل صغير تناسبه للغاية تسمية «قرن»، إذ ينبثق وحده من وسط الأرض الواسعة المنبسطة)، حتى وصلنا «شقرة»، الميناء الصغير الذي كان ذات يوم عاصمة السلطنة الفضلية (وفيه قبر مؤسس السلطنة أحمد بن حسين الفضلي)، موقعه الاستراتيجي الهام طالما جعل منه عقدة هامة لطرق المواصلات البرية والبحرية بين أرجاء اليمن.

وأهل شقرة-كمعظم سكان السواحل- لطفاء طيبون، لوّحتهم شمس البحر بسمرتها الدافئة، يعيشون على الصيد، وأحياناً على العنبر الذي يستخرجونه من بعض أنواع السمك، وبعضهم يعيش على الرعي والزراعة، وقد استوعب مصنعها الكبير الذائع الصيت لتعليب الأسماك المئات من أياديها العاملة (ولا سيّما من النساء) قبل أن يتوقف عن العمل قبل سنين. ربما استمدت شقرة اسمها الحالي من أشجار الشقر (الريحان) الطيبة الرائحة، التي كانت تنبت بكثافة على أرضها، وهو اسم لا يزيد جمالاً-برأيي-عن اسمها الشاعريّ القديم «مدّ النظر».

نجتاز سوقها الشعبي بسرعة، والمعروض فيه –بشكل أساسي- السمك، وكذلك (اللخم)، وهو سمك مملح مجفف بالشمس، وسكان الجبال –كما سمعت-يطبخون هذه الأسماك المجففة ويطهون منها حساءً لذيذاً (مرق اللخم)، وطبيعي أن يفضلوها على الأسماك الطازجة التي تفسد بسرعة، حتى قبل أن تصلهم أحياناً.

في نهاية شقرة شرقاً، نمر قرب بئر (دنيا) التي روت مياهها أهل المدينة زمناً طويلاً، ولا ننسى، قبل أن نغادر، أن نفتح راحتينا، نقرأ الفاتحة على روح والديّ قصعان، الشاب اليمني الطيب الذي يعيش خارج اليمن، وكان قد حمّلنا أمانة أن نقرأ الفاتحة على روح والديه رحمهما الله حين نمر في شقرة.

انعطفت السيارة يساراً باتجاه الجبال، أصبح البحر الآن خلف ظهورنا، وحرارة الشمس قد أخذت تزداد، في نهاية السهل الواسع بدت كالحلم أسوار من الجبال المتلاصقة، ومن بعيد رأيت الطريق الصاعد إلى الجبل، ملتوياً وضيقاً، هذا هو(العرقوب)، وهو الكاحل باللهجة اليمنية، وحالما بدأنا بالصعود، تيقنت بسبب أنين محرك السيارة الأجش وتباطؤ حركتها من حقيقة ما يتداوله السائقون عن قوة الجاذبية الملحوظة في هذه المنطقة البركانية، والتي تشد حديد السيارة إلى الأرض فتبطئ سرعتها .

الطريق بين شاطئ البحر ودثينة (وجهتنا)، يمتد حاملا أسماء أجزاء متعاقبة من الجسد البشري، من «العرقوب» (الكاحل) إلى «الركبة» ثم «الصرة» و«العين» حتى «رأس الظاهر»، و«الشعرة»، سيطر علي- طوال الوقت- شعور بأنني أسير على جسد عملاق أسطوري دافئ اللون، قدماه تبتردان في البحر، بينما يلقي برأسه على حضن جبال «الكور» في مكيراس.

نتسلق إذاً جبال العرقوب، ثم نتوقف في أعلى الطريق (أسفل منطقة الركبة)، ننزل من السيارة لنلقي نظرة على المشهد من هنا، من هذه النقطة بالذات يشاهد القادمون من المناطق الداخلية لأبين البحر لأول مرة، وفي زمن مضى، كان من الطقوس المعتادة أن يحمل من يشاهد البحر لأول مرة في حياته معه فدية تسمى «القلمة»، وهي عبارة عن خليط من الجلجل (السمسم) والدخن (يستخدمها المسافرون عادة كغذاء لا يفسد لشهور طويلة)، ويفتدي نفسه بتقديمها لمن معه، وهو بذلك-كما يعتقد-يسترضي البحر السريع الغضب كي لا يهاجمه.

ما أجمل منظر البحر من هنا، مداه الأزرق اللا محدود يفتح الآفاق في داخلي، وتتكسر همومي مع أمواجه على الساحل الرملي الطويل، وفي وسط البحر، على بعد عدة كيلومترات من الشاطئ، يمكن ملاحظة أرتال أمواج أخرى تتكسر، ربما على بعض الجزر أوالصخور، والطريف –كما قيل لي –أنهم يسمونها «الشام»، هل لذلك علاقة بالشام التي أتيت منها؟، أم لأنها تبدو–بتفرد حركتها وانكسارها دون غيرها من الأمواج وسط اليم- كالشامة على صفحة البحر الواسعة المصقولة؟..الله أعلم.

على رأس جبل العرقوب وبعد «الركبة» بقليل، نمرّ بتلة مرتفعة، قطعة صغيرة ووحيدة من الأرض الزراعية فوق هذا الجبل البركاني المحروق، يدعونها «جربة الوبري»، و«الوبري» هو حيوان صغير يشبه القط كثيراً، ويطلقون عليه في بعض المناطق اسم «بسم» أو«عسني»، لا يأكل إلا الأعشاب، فيتسلق الأشجار ليأكل من أوراقها وزهورها،وأهم ما فيه كبرياؤه وشجاعته، عندما يشاهدك لا يهرب، بل يستمر في الوقوف والتحديق إليك، وحتى لو وجهت إليه سلاحك، يبقى محدقاً بك وبالسلاح المصوب إليه بثبات إلى أن تطلق عليه النار أو تغادره، ولهذا يقال «كبر الوبري» لبعض الناس كناية عن تحديهم وشموخهم مع ضعفهم.

تولاني الإعجاب والاحترام إزاء هذا المخلوق المعتز بنفسه، وألحّت علي فكرة أنه يجب تحريم اصطياده، سيّما في زمن قلّ فيه الكبار وغابت الكبرياء.

[email protected]

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى