أحمد شوقي.. وحديث الإمارة

> «الأيام» علي محمد يحيى:

> منذ ثلاثة أرباع قرن، ونحن العرب أجمعين لم نفتأ نذكر أمير الشعراء أحمد شوقي، ولم نفتأ نذكره إما بالحديث عن شعره قراءة أو سمعاً أو استذكار سيرة حياته.

ولا أعجب أيضاً في أن نتعلق بشعره نحن العرب ونكبره كما تعلق به المصريون وأكبروه أيما إكبار. فإنه مما لا شك فيه أن بلاد النيل، أرض الكنانة، لم تنجب في كل عصورها وتاريخها شاعراً أعظم منه، وهو الذي بلغت شهرته ومكانته العالم العربي كله، ودرس تراثه معظم المستشرقين ممن عنوا بالادب العربي.

وما دفعني لتذكر هذا الشاعر العظيم إنما كان من وحي لقاء أدبي وفني جمعني بالأستاذ الدكتور أبوبكر محسن الحامد، الأستاذ في الأدب المقارن بجامعة عدن، والشاعر الأستاذ عبدالرحمن السقاف، والفنان الجميل المثقف عصام خليدي، والأستاذ أحمد السقاف المحرر الثقافي بـ«الأيام» الغراء، وما دار في ذلك اللقاء من تناول لشعر شوقي، وما جاء منه في غناء المغنين والمطربين في مصر وسائر بلاد العرب، وما أجمله من لقاء كان، حفزني في أن أتناول بعضاً من محطات حياته وشعره.

ولقـد وقـر فـي نفـوس العرب أنهـم لم ينجبوا شاعراً عملاقاً يمكنه أن يقف موازياً لبعض فحول شعراء بلاد الـرافدين مثل الشريف الرضي، والمتنبي أو شعراء الشام كالبحتري وأبي تمام أو شعراء الأندلس مثل ابن زيدون وابن هانئ، فقد بقـوا طوال قرون تحت وطأة وثقل الهم، حتى ظهـر شوقي وارتفع به النقد الحديث إلى مرتبة أولئك الفحول. وهدأ بال المصريين وتنفسوا الصعداء حين بايع شعراء العرب قاطبة شوقي بإمارة الشعر الحديث، فكأنما اعترفوا جميعاً بانتقال زعامة الشعر إلى مصر.

وليس بجديد في هذا المقال العجالة لو أننا سنتناول أدبه وشعره، فإن ذلك قد قيل مرارا وتكراراً. وكتبت عنه من المقالات الكثار خلال تلك السنوات الماضيات من يوم رحيله. ولكن دعونا نستخلص بعض العبر من حياته الأدبية أو هي مميزات كما أتصور. وأن نطلع على أهم مراحل حياته لنستعيد بما لم تسمح لنا ظروفنا في هذا الزمن المتسارع بالرجوع إليها في مظـانها، وليتعرف عليها الكثير من شباب أدبائنا اليوم.

جاء شوقي إلى الدنيا عام 1868م من أعراق متشابكة ليس فيها من العرق العربي الخالص.. فجده لأبيه من أصل عربي شركسي، وجده لأمه من أصل تركي، وجدته من أصل يوناني. عرف حياة القصور وترعرع فيها مع جدته اليونانية في كنف الخديوي إسماعيل، وتعلم لغة القرآن في الكتّاب وهو في الرابعة من عمره، انتقل بعدها إلى المدرسة الابتدائية فالإعدادية ثم التحق بمدرسة الحقوق عام 1885 لدراسة الترجمة. أوفده بعدها الخديوي توفيق إلى فرنسا لدراسة الحقوق، وحين عاد عُيّـن في (السرايا) إلا أن نبوغه في الشعر قربه من الخديوي عباس، فقدمه على جميع حاشيته ورجاله بعد أن أوكل إليه الكثير من المهام، حتى كانت الحرب العالمية الأولى، حينها مُنع الخديوي من العودة إلى مصر ونُفي أحمد شوقي إلى برشلونة باسبانيا، وظل فيها خلال سنوات الحرب إلى أن عاد إلى مصر بعد ثورة عام 1919م، واستقبل بترحيب وحماس بالغين كان لهما أثرهما العميق عليه، فاتجه إلى العامة من المصريين، فعايشهم في النوادي والمقاهي والمطاعم، ولم ينقطع من بعدها عنهم.

فإذا كان لنا من استخلاص بعض العبر في حياة شوقي، وهي في الحقيقة مميزات أكثر منها عبراً، فإن أولها أن أمير الشعراء كان قضى زمناً من حياته قارب العقدين من السنين، ما بين حياة البذخ في القصور وتمجيد الخديوي وما بين السياسية الخديوية والتغني بالشعر مرضاة لولي نعمته إلى حين رجوعه من منفاه ورأى أن بلاده قد قامت بثورة وطنية سالت دماء أبنائها وهم يطالبون بالحرية والاستقلال، ثم التفت إلى بقية بلاد العرب فوجدها هي الأخرى تعاني نفس المأساة ومكبلة بقيود تضطرب بين أيديهم مطالبة بالعتق والحرية، فاستشعر في نفسه ووجدانه بأن شعره يجب أن ينصرف إلى التعبير لا عن توجع وآلام مصر وحدها بل عن توجع وآلام الأمة العربية كلها فجاء ذلك واضحاً في قصيدته التي لا أذكر منها غير البيت الذي يقول فيه:

فنحن في الشرق والفصحى بنو رحم

ونحن في الجرح والآلام إخوان

والعبرة الثانـية هـي أن أمـير الشعراء بعد أن انحاز إلى صفوف الشعب أصبح المتكلم بلسانه شعراً، ومعبراً عن رغبات وتطلعات ومصالح غالبية المصريين، ويستوحي أفكاره من أفكارهم، فإذا بشعره يبتعد عن الشعر الذاتي الذي تتبين فيه عواطف الشاعر الشخصية وميوله، وما يحب وما يكره من الأشياء والأشخاص إلى ما يميل إليه الرأي العام ويحتاجه زعماء السياسة وقتها.

والعبرة الثالثة أو الميزة الثالثة، هي أن أمير الشعراء لم يكن يهدف من الشعر إلا المجد الأدبي، ولا شيء غير المجد الأدبي والدفاع عنه دفاع المستميت والغيرة عليه من كل متطاول أو مشاكس.

ومع أنه في حياته الخاصة كان رجلاً عادياً إلا أنه في حياته العامة كان صياداً ماهراً يقتنص الفرص لينظُم، في الحدث الذي يتحدث به كل الناس.. وكذلك كان في مديحه ومراثيه للشخصيات البارزة من اجتماعية ودينية التي كان يجلها الناس، وحتى يكون ذكر الحادث مقروناً بذكره، وشهرة من يمدح أو يرثي مغذية لشهرته.

وأزعم وأنا في خاتمة المطاف أن أمير الشعراء أحمد شوقي سيبقى شعره مقروءاً وفي ذاكرتنا جميعاً محفوظاً إلى جانب فحول شعراء العربية لا بالموضوعات التي نظم فيها، ولا بالأفكار التي أتى بها فحسب.. بل أيضاً لأسلوبه الشعري وموسيقى نظمه الرائعة، موسيقى الشعر الأخاذة التي ترن في الآذان لحسن اختياره اللفظة الموسيقية والصورة الشعرية المتألقة.

أُسمع القارئ الكريم أبياتاً من قصيدته في رثاء شاعر النيل حافظ إبراهيم التي ينبئ مطلعها عن مبلغ تقديره لصاحبه ووفائه له:

قد كنت أوثر أن تقول رثائي

يا منصف الموتى من الأحياءِ

لكن سبقتَ وكل طول سلامة

قدرٌ، وكل منية بقضاءِ

الحق نادى فاستجبتَ ولم تزلْ

بالحق تحفلُ عند كل نداءِ

إلى أن يقول في خاتمتها:

اليوم هادنتَ الحوادث فاطّرحْ

عبء السنين وألق عبء الداءِ

خلّفتَ في الدنيا بياناً خالداً

وتركتَ أجيالاً من الأبناءِ

وغداً سيذكرك الزمانُ، ولم يزلْ

للدهر إنصاف وحسن جزاءِ

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى