سلام..قلوب..علم (5)

> ريم عبدالغني:

>
غطيت أذني بيدي، هرباً من أزيز الرصاص المنطلق من الرشاش (الكلاشينكوف) المرفوع عالياً في الهواء ،عباس يستقبلنا وفق العادات المحليّة،هنا «يعشّروا» أي يرحبون بالضيف بإطلاق الرصاص ،ولأنه عندما يموت شخص في قرية أو منطقة منعزلة يتم إطلاق طلقتي رصاص اثنتين إعلاماً بأن حدثاً حزيناً قد وقع، وعندما تصطاد حيواناً مثلاً إذا أطلقت طلقتين لابدّ أن تطلق الثالثة حتى لا تثير قلق الناس، فقد أطلق عباس سيلاً من الرصاص ابتهاجاً بقدومنا.

وصلنا أخيراً مقصدنا، قريتي «امقوز» و «امفرعة» الصغيرتين يفصل بينهما، أو يجمعهما، وادي «وجر»، الوقت ظهراً والشمس حارقة والرمال مازالت تتطاير حول السيارة العالية المغبرّة، مريح أن نغادرها بعد ساعات ثلاث من السفر، الوجوه الطيبة تخرج تباعاً من الباب الكبير لبيت العائلة، فيض من كلمات الترحيب، بعضها يفوتني من خلال تداخل الكلام وسرعته.

حييتهم قائلة:«سلام.. قلوب..علم»، انفجر عم محمد -وقد فهم الرسالة- بالضحك ، إذ اعتاد بعض البدو قديماً أن يحيّوا بكلمات ثلاث:«سلام»،بمعنى السلام عليك، «قلوب»، بمعنى لا داعي لأن نسلم على بعضنا بالأيدي أو نتبادل القبل، و«علم» تعني أعلمني بأخباركم ، كلمات سريعة مختزلة وكأنهم لا يجدون وقتاً للكلام والسلام لكثرة مشاغلهم!

رنّت في أذني أهزوجة الترحيب بالضيوف (وخاصة بالعروس)، المعروفة في تراث دثينة الشعبي: على امسيري ، على امسيري ألا بسم الله الرحمن

على امسيري.. على امسيري عسى الله يقرع الشيطان (على امسيري: أي امش على مهلك)

«ألا يا مرحبا بش وبهلش وبالجمل دي رحل بش»(مرحباً بكِ وبأهلك وبالجمل الذي حملك إلينا)

ندع «جملنا» اللاندكروزر خارج البوابة الحديدية، وندلف منها إلى حوش واسع، على أطرافه مجموعة غرف الأولاد والأحفاد وعائلاتهم، بيت نما مع اتساع الأسرة وازدياد عدد أفرادها ، و البيت الريفي غالباً صورة تجسد حياة العائلة في مختلف مراحلها .

هربنا من القيظ إلى البرودة اللذيذة المخزنة بين الجدران الحجرية السميكة للبيت القديم، أم أحمد تؤهل و تسهل بنا تكراراً، و تدخلنا الغرفة الواسعة بنوافذها المتطاولة المنخفضة، افترشنا الأرض، تأملت السقف العالي المبني من خشب العلب و المضاض المقاوم للحشرات،السطوح الواسعة لجدران طُلي أسفلها بالأخضر الفاتح المريح و قسمها العلوي بالأبيض ،الستارة البيضاء النظيفة برسومها النباتية،الأرضية المغطاة بحصيرة من”المشمع” اللدائن البيضاء المزدانة بمربعات سوداء ،البساطة اللا متناهية في كل شيء حولي جعلتني أتأمل في الحياة الهادئة التي يعيشونها هنا ،بعيداً عن ركض المدينة وحمّاها ،ما تفتقده من كماليات تعوضه أضعافاً من الإيجابيات..الهدوء، البساطة، المسافات القريبة، الطبيعة النقية، طيبة الناس و تكافلهم.

دقائق وحضر طعام الغداء، يتقدّمه طبق كبير، جدي كامل مستلق فوق كومة أرز ، برأسه و لحمه وعظامه، في الريف لابد أن يولم للضيف أو«الدخيل» بذبيحة أو أكثر، و ربما تصل حرارة الترحيب بحسب مكانة الضيف إلى عشرات الذبائح ،حتى ولو لم يكن هناك عدد كاف من الضيوف ليأكلوا كل هذا الطعام، و لأن للقبيلة قداستها ، فلا بد من ذبيحة لكل منها ، حتى لو حضر منها فرد واحد فقط ، يقدم القلب و أهم أجزاء الذبيحة عادة لأهم الضيوف، و يوزع الباقي على الحاضرين بحسب درجات أهميتهم و مراتبهم الاجتماعية.

وزعت علينا «مطايب» المرق (صحون حساء اللحم)، تبعها «المخلم» أو «الرهي» وهو خبز حامض يُخبز في الميفا (التنور) من حبوب الذرة و السنيسلة ، و عصيدة «الزاد» الحامضة المعدّة من دقيق الذرة، و «اللهوبة» وهي عصيدة من الدخن، و «العصيد»، إلى جانبها السمن البلدي والعسل و السليط (زيت السمسم «الجلجل»).

استمتعنا جميعاً بطعم اللحم الذي يحمل نكهة مراعي دثينة المميزة، مع طعم عسل العلب الشهي ، واستمتعت أنا بشكل خاص بمشهدهم يأكلون بشهية ، دون تكلف الملاعق والشوك والسكاكين، بعيداً زيف المآدب الرسمية والدعوات التي يذهب إليها البعض في مدننا شبعان كي لا يأكل على سجيّته أمام الآخرين. «ما أغبى ذلك!» ،فكّرت و أنا أمسك بيديّ «فذحاً» من الحبحب» (قطعةً من البطيخ الأحمر)الباردة وأقضمها كما يفعلون...

ما زلتَ-في الريف-تلمس «نعمة» الصدق و التلقائية، لحسن الحظ أنّهم لم يقتبسوا عاداتنا السيئة في المدن،حيث لم نعد نميز أقنعتنا الكثيرة من وجوهنا الحقيقية،هنا مازالوا-طوبى لهم- يضحكون من القلب ويبكون من القلب، يختلفون ويتسامحون من القلب، ونحن هناك في أعلى أبراج المدينة، لم نعد نعرف القلب إلا «مضخة للدم»، يمكنها أن تعمل بالبطارية لو تباطأت.

مسك الختام كان القهوة اليمنية بلونها الأشقر الفاتح،و في اليمن عموماً يشربون مغلي قشور القهوة وليس حبوبها الأصلية،ربما لأنهم اعتادوا في الأيام القاسية تصدير اللب (النواة) والاحتفاظ بالقشر، يقومون بغليه مع الزنجبيل، مما يضفي على هذا الشراب الساخن طعماً حاداً مميزاً، وغالباً ما تسمعهم يقولون مع تقديم «قلس» أو كوب القهوة:«اقرأ معها الفاتحة على روح الشاذلي و الخاملي و كل صالح ولي».

اقرؤوا الفاتحة معي على أرواح كل الصالحين، و تابعوا معي رحلتي في أبين في الحلقة القادمة.

[email protected]

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى