لحج الخضيرة

> فضل النقيب:

> كان الأمير أحمد فضل القمندان رائياً كبيراً في عصره، فقد حباه الله روحاً شفافة متوثبة تطمح إلى العمران وتأنس إلى الإحسان في كل ما تأتيه من تأريخ وشعر وغناء وأشجان، وحب للناس لا تخطؤه العين ولا يلهج الضمير بغير فرائده الحسان، وكان علماً متعلماً شغوفاً بالمعرفة وقادراً على تدويرها وإدراك دقائقها، ولم يمسه ُخيلاء الحكام الذين لم تلفحهم نيران المحبة ولوائع العشق، ولا أوهام الجهال الذين يرون ذواتهم مركز الكون، ولا نفاق المتكسبين من وعاظ السلاطين الذين يبيعون حسب الطلب ويقولون لكل ذي جاه (وجب)، وقد ذهب كل شيء وبقي سلطان السلاطين مولى الكلمات وشادي الألحان، أميرنا المحبوب أحمد فضل القمندان لأن عرشه من الكلمات اللآلئ التي لا يبليها الزمان ولا يطاولها الحدثان.

لحج واحة، أو كما يسميها الأمير «أحد وديان اليمن المباركة» وقد عهدناها مزرعة عطور وبستان فواكه ونبع ألحان وغناء، فهل هي كذلك على مر الزمن، أم إنها عرفت التحولات والتبدلات تبعاً لتقلبات الأوقات، لنسأل الرائي عما رأى، فليس من سمع كمن رأى ..؟

«لا يزرع أهالي لحج في وادي تبن غير شيء من الذرة والسمسم بقدر ما يكفي لقدتهم وعلف مواشيهم، ولا يعرفون شيئاً من الخضروات والفواكه، ولا يزرعون من الزرع الإ ما كانت قريبة من قراهم حيث لا تصل إلى سلب محصولاتها أيدي أعدائهم من الأعراب، وكانوا يحرثون أراضيهم ويحصدونها غالباً تحت وابل من رصاص البنادق دفاعاً عن «الضمد» و«السبولة» حتى أن السلطان علي محسن كان يدافع برصاص بندقه «المنتول» الذي لا يخطئ به هدفاً غزوات العوالق وأحمد بن عبدالله الفضلي على بقر الحرث في طين الشجيرات وعندما كانوا يتحينون مواسم الحصاد في لحج فيأتون لحصد ما تصل إليه أيديهم من المزارع ويحملون الحبوب إلى بلادهم بينما ينشدون أرجوزتهم المشهورة :

ذرت العَرْسة وتصرّف التيس

نعم.. لم يتحرّج الأمير عن إيراد التاريخ لوجه التاريخ ، ولو أمضّ النفس، ونسأل كيف بدأت الزراعة الجديدة التي جعلت من الواحة جنة، لنتبين أثر الناس في الطبيعة وقيمة العمل في الإبداع، وأهمية الأمن للنهوض بالاقتصاد .

«أول من اعتنى بغرس الأشجار في لحج ناصر فضل الصّمصام ومحمد صالح الجريبي والشيخ باقي وفي عهد السلطان فضل محسن استعادت حكومة عدن منه أرضاً غرست فيها بستاناً يعرف موضعه إلى الآن بـ«حيط السركال» جلبت إليه أشجار فواكه من الهند، ثم عمر المرزا حسن علي رجب علي من تجار عدن بستاناً آخر، ومن هذين البستانين نقل أهل لحج غرس الأشجار المجلوبة من الهند كالبدام (بيدان) والقشطة والجوافة، واستمر السلاطين يوالون جلب الأشجار والنخيل من الهند ومصر وصنعا وزبيد وغيرها حتى مست الحاجة إلى زيادة في المياه عما يجود به واديا تبن وورزان، كما أحست البلاد بالحاجة إلى أسواق غير أسواق عدن لأن فواكه لحج وخضرواتها تتكدس في سوق عدن فتباع بأبخس الأثمان . وقد أدخل السلطان عبد الكريم فضل إلى لحج الآلات البخارية والمولدات الكهربائية لتنوير البلاد ورفع الماء من الآبار، واهتم بتشويق الرعية لزراعة التبغ لإرساله إلى أسواق بعيدة حيث يلقى أسعاراً مناسبة». وهكذا انتقلت لحج من الخوف إلى الأمان ومن الشحة إلى الكثرة ومن الزراعة المحدودة إلى الاستصلاح غير المحدود في ذلك ما يلهم الأجيال الجديدة للإبداع واقتحام الصعاب ومقاربة الأسباب، خاصة وقد عادت السنوات المطيرة فسالت الوديان ورجعت الينابيع إلى الجريان فافترّ ثغر الزمان .

لقد حذا صاحب «هدية الزمن في أخبار ملوك لحج وعدن» حذو الواحة اللحجية فمن أراد الفل والكادي وجده، ومن أراد المشمش والعنبروت ناله، ومن أراد الحب والسمسم استكاله، ومن أراد قطاف الشعر دنت منه عناقيده واستمع إلى أناشيده .

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى