حمص اليمنيين أم يمن الحماصنة؟

> ريم عبدالغني:

>
أكثر ما يخشاه الناس في ريف اليمن أمران: الحروب·· إذ تلتهم أبناءهم، والجراد إذ يلتهم مزروعاتهم، رغم أن الخبثاء يقولون: «إذا كان الجراد آفة الزراعة، فآفة الجراد··اليمنيون»، لأنهم يصطادونه ويأكلونه مشوياً وأحياناً يسلقونه ليخزنوه زمناً، أو يبيعونه مجففاً في الأسواق، ومع أنني لا أستسيغ الفكرة لكنهم يعتبرونه، كما يبدو، «جمبري» الجبال.

ولحسن الحظ أن الغذاء الذي قدم لنا في دثينة لم يحتو على الجراد، وكنت قد حدثتكم في الحلقة الماضية بالتفصيل عن تلك المأدبة (الدثينية»، ولا سيّما الجدي الكبير الذي كان «أدانا» (أي غداءنا، ففي أبين ينطقون الغين ألفاً كأن تقول «أنم» والمقصود: غنم).

بعد أن انتهينا من طعام الغداء، وبينما كنّا نتحادث ونتبادل الأخبار، دخلت القاعة سيدة عجوز، اتجهت صوبي وجلست قربي على الأرض، وشيخة أو أم محمد التي تجاوزت ربما الثمانين، دقيقة القامة، وجهها يفيض طيبة، تفحصتني ملياً بعينين تبدوان واسعتين من وراء زجاج نظارتها السميكة، مررت يداها المعروقتان على وجهي، ثم طافت بهما على شعري، وذراعيّ، وحتى على قدميّ.

تذكرت التقاليد الشامية القديمة، أيّام زمان، حين كانت الخاطبة أو الأم في دمشق «تفحص» العروس، فتنتهز فرصة انحنائها لتقديم كوب العصير كي تجذبها من ضفيرتها فتعرف إذا كانت الضفيرة حقيقية أم شعراً مستعاراً، ثم تقدم لها جوزة قاسية، تصر على أن تقضمها بأسنانها، كي تعرف إذا كانت أسنانها سليمة أم أنها تضع فكاً اصطناعياً.. ضحكتُ وأم محمد تتلمس قدمي، هل تحسبينها قدماً اصطناعية يا عمة شيخة؟ ومن دون تفكير، نفذت ما أملاه شعوري عليّ، مددت جذعي أقبّلها على جبينها، لا أدري لماذا أحببت وجهها الطيب بقسماته المتعبة، ربما أسرتني بساطتها وتلقائيتها.

تحركت العجوز التي عاركت الزمن نحو الصحن الكبير، وتناولت منه قطعة عظم بحجم الكف: «هذه هي المقحفة وهي عظمة الكتف، وعندنا كان العرّافون والخبراء يتبادلون المقحفة ليتنبؤوا، من خلال قراءة الخطوط فوقها، بنزول المطر أو الموت وغيرهما من أمور الغيب، ورغم أن العلم عند الله سبحانه فقط، لكن الكثيرين يعتقدون بصحة هذه التنبؤات التي تثير تفاؤلهم أو تشاؤمهم».

و في رواية طريفة ـ قالت إنها حقيقية ـ أخبرتنا العمة شيخة عن شخص كان يدعى منصور الوحيشي، ومنصور هذا رأى في «المقحفة» ـ وكان مسافراً ـ رجلاً نائماً في بيته، فقطع رحلته عائداً وهو يستشيط غضباً، ظناً منه أن زوجته تخونه مع رجل آخر، وما أن طرق الباب، حتى أجابته زوجته من ورائه، كي لا يتهور بارتكاب جريمة: «هذا خوي يا امقحّف ابن امقحّف!» (أي هذا أخي يا قارئ المقحفة).

أحاديثها كانت نافذة على عالم يثير فضولي وإعجابي معاً، دعوتها أن تزورني في دمشق ذات يوم، وأثار استغرابي أن أعرف أن مقصدها في سوريا ـ لو أتيح لها زيارتها ـ حمص وليس دمشق، هي التي لم تخرج من اليمن قط، بل ربما لم تخطُ خارج قرية (امفرعة) أصلاً·· من أين تعرف حمص؟ ولماذا حمص؟.

حمص «حقّنا» (أي حمص تخص اليمنيين)، أكدت لي وهي تترحّم على روح قريبتها ـ أم زوجي رحمها الله، السيدة الأمية الرائعة التي فاقت خبرتها في الحياة الشهادات الجامعية، وووريت الثرى في حمص حسب وصيّتها، «قرب خالد» كما كانت تقول، عساها معه في جنة الخلد.

ويبدو أن علاقة خاصة وقديمة تربط اليمنيين بحمص، منذ دخلها خالد بن الوليد ومعه جنده اليماني قبل ألف وأربعمائة عام، واللون اليمني واضح في موزاييك المدينة، وقد أخبرتني سيّدة فاضلة من عائلة (الأتاسي) وهي من العائلات الحمصية العريقة، أن جذورهم تمتد إلى اليمن، ولعل (أتاسي) حُرفت من عطاس العائلة الحضرميّة المعروفة، والحديث عن (الجذور اليمنية) تسمعه كثيراً من أهالي حمص.

و في مزيد من تلمس الوشائج الخفية التي تربط أهل (السعيدة) بأهل (العاصي)، تذكرت الطرائف التي يُتندر بها على خصوصية يوم الأربعاء لدى أهل حمص وإعراضهم عن العمل فيه، ومع أن أهل حمص اليوم بريئون من هذه النكات، لكن ما أدهشني أن للأربعاء تحديداً (أو«الربوع» كما يدعونه) أيضاً خصوصيته في دثينة كذلك، وعند العواذل وقبائل البيضاء، الذين يتشاءمون منه للغاية، وإذا زلّ لسانك ونطقت بـ «يوم الربوع» هنا، فإن من يسمعك منهم قد يجيبك غاضباً بما يعتبر دعاءً قبيحاً: «يوم الربوع على قرنك وقرن أبوك!» (أي فلتنزل مصائب الأربعاء على رأسك ورأس أبيك)، وغالباً ما يقفل عائداً إلى منزله متطيراً من أن يصيبه مكروه، وعموماً فهم يتجنبون السفر أو عقد الاتفاقات التجارية وسواها من الأعمال في أيام الأربعاء.

و في تفسير ذلك يُقال إن حادثاً رهيباً قد وقع هنا ذات أربعاء، وتوارثت الأجيال التشاؤم من ذلك اليوم الذي ظل مرتبطاً في الذاكرة الشعبية بآثار تلك المأساة البعيدة، وفي محاولة لتجنّب ذكر يوم (الأربعاء) أو(الربوع) وإبعاد فأله السيئ، فإنهم يدعونه يوم «امبرك» (أي يوم البركات والخير).

و قادني التداعي إلى التفكير أيضاً في ما لفت نظري خلال الطريق بين عدن ودثينة من تشابه في أسماء المناطق بين اليمن وسوريا، فقرى (أبين) و(كوكب) قرب مدينة حلب، و(قوز) قرب طرطوس، و(جبلة) قرب اللاذقية، و(المشيريف) في درعا، ومدينة (السويداء) في الجنوب السوري، لها نظائرها في اليمن، وربما كانت كلّها مواطئ أقدام اليمنيين الأوائل الذين أتوا مع جيوش الفتوحات، وقبلها وبعدها، وسكنوا كل مكان من الوطن العربي.

و من غير أن أقرأ (المقحفة)، كان يمكنني التنبؤ بأن كم القصص الهائل في جعبة العمة شيخة قد ينسينا مرور الوقت، لذلك حملت حقيبتي الصغيرة، وتهيأت لإكمال جولتي في القرية·· قبل مغيب الشمس، وسأخبركم في العدد القادم بما رأيت.

[email protected]

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى