القبيلة ودولة السلطة الواحدة

> أبوبكر السقاف:

> تحت عنوان: توجيه رئاسي بإنقاذ شركة المنقذ جاء في الصفحة الأولى من صحيفة الأسبوع في عددها الصادر يوم 2001/6/14م الخبر التالي:«وجه الرئيس علي عبدالله صالح باعتماد مليار وثمانمائة مليون ريال من ميزانية الدولة لتعويض شركة المنقذ.. وكان الرئيس قد رفض اعتماد المبلغ المذكور الذي اقترحه الشيخ عبدالله الأحمر كحل وسط بين ما تطالب به المنقذ (ملياران و800 مليون ريال) وبين ما وجه به الرئيس (مليار ريال).

وأشارت المصارد إلى أن الشيخ الأحمر وعددا من المشائخ (المشايخ أ. س) بالإضافة إلى قيادات عسكرية حكموا في القضية، قاموا بالتوسط لدى الرئيس للقبول بالمبلغ الأخير حيث وجه رئيس الوزراء لصرف المبلغ.

وأضافت المصادر أن رئيس الوزراء اقترح صرف المبلغ على دفعتين حتى لا تتأثر ميزانية الدولة وهو ما ترفضه قيادة المنقذ التي وكلت الشيخ حميد الأحمر الذي يحمل رسالة من والده إلى رئيس الوزراء بضرورة صرف المبلغ كاملا هذا العام حيث وعد بحل الموضوع عاجلا.

وقالت مصادر في شركة المنقذ إن المبلغ المذكور لن يغطي الأرباح التي وعد بها المساهمون وأن هؤلاء بالكاد سيحصلون على رؤوس أموالهم. وأضاف أن المحكمين والمشائخ (المشايخ) الذين تابعوا القضية سيرصد لهم مبلغ كبير لن يقل عن 300 مليون ريال.

يذكر أن شركة المنقذ ادعت مصادرة الدولة لأراض لها في منطقة كالتكس بعدن عام 1994م وتم رفع القضية إلى محكمة عدن التي أدانت شركة المنقذ، واعتبرت قياداتها آنذاك أن الحكم سياسي، وتضم شركة المنقذ شركتي النور والسنابل، ويبلغ عدد المساهمين فيها 19.600 مساهم لم يستلموا أموالهم حتى اليوم».

لو أراد روائي قدير أن يشخص صورة شبكة الحكم في النظام القائم في يمن ما بعد يوم 94/7/7 لما وفق أكثر من الصورة التي يقدمها هذا الخبر البسيط في مفرداته وحكايته، ولكن العميق في دلالاته إلى درجة مدهشة. إنه كما يقول الفلاسفة ذلك العيني الذي تلتقي فيه المجردات، لتمنح عينيته ثراء وحيوية لا تملكهما المجردات، إذا ما أخذ كل واحد منها على حدة، ولذا يقال إن الواقع أغنى وأخصب من الخيال، ولذا يبدو أننا عندما نشحذ الخيال وننشط المخيلة لا نكاد نتجاوز الواقع إلا بقوة الحتم وحدها، فكل ما تختلقه المخيلة إنما يستمد حيوته من غي الواقع، الذي يمور بالأفعال والأهواء.

إن القول بأن هذا الخبر يناقض الدستور والقوانين السارية ويلغي السلطات كلها لصالح السلطة واحدة، ألا وهي السلطة التنفيذية، التي تمارس منذ سنوات نظام السلطة الواحدة، يبدو قضية جلية بذاتها(1)، ولكن هذا القول نفسه يبدو أحياناً من حيث لا نشعر يزعم أن هناك لوناً من ألوان الفصل بين السلطات في هذي البلاد، وأن هذا الديكور البراني الذي يجدد ويرمم دون انقطاع منذ يوم 1990/5/22، قد زحزح مبدأ الحكم الفردي، وأننا بصورة أو أخرى قد دخلنا في مرحلة جديدة يمكن أن يتلقح فيها مجتمعنا بشيء ولو قليل من السياسة الحديثة. والحال في تقديري أن هذا أمر تاريخي لم يقترب مجتمعنا منه.

وإذا كانت المجتمعات تتطور في مدارج تاريخية لها شروط ثقافية واقتصادية واجتماعية متواشجة، وغالباً ما تكون مصحوبة باستقلال فئة من السكان عن الحاكم الفردي بصورة من الصور «إن أهم جوانب الإقطاع الأوروبي التي ساعدت على نشوء الديمقراطية هو فكرة حصانة بعض الجماعات والأفراد أمام الحاكم إلى جانب مفهوم مقاومة النظام غير العادل ومفهوم التعاقد بما هو عملية ارتباط متبادل يقوم به أفراد أحرار» وبارنغتون مور صاحب هذا الرأي يرى أن هذا المركب من الأفكار والممارسات يشكل إرثاً حاسماً عن القرون، أي أن البرلمانية في طبعاتها المتفاوتة إنما نتجت عن هذا المركب، ويستحيل ظهوره حيث الكل من العبيد - الرعايا أو حيث تمتزج الرعوية بالريعية، فيتضافر الماضي والحاضر على صوغ عبودية مركبة.

إن غياب هذه الفئة المحصنة أمام الاستبداد الفردي في تاريخنا العربي يسمى حكم الغلبة، الذي شكا منه الفيلسوف الفارابي. ودورات الغلبة لا تصنع تقدماً فهي عقيمة، ويشهد على عقمها أن مبدأ الخروج عند الخوارج والزيود لم يحدث تغييراً لا في الفكر السياسي ولا في الممارسة السياسية، والحاكمية اليوم في طبعتها الشيعية الاثنى عشرية في إيران، وحاكمية السنيين: المودوري والنردي والشهيد سيد قطب تدور داخل البيعة التي تسلم الحاكم رقاب العباد ومصائر البلاد، والتعاقد لا مكان له في هذا السياق، ويتحدث عن الحاكمية النبهاني مؤسس حزب التحرير الإسلامي 1952م وأن جعلها للخليفة القادر على الاجتهاد مقترباً بهذا القول من الفقه الجعفري، لا سيما في ما يعرف اليوم بولاية الفقيه في إيران. وهو مثل بقية ممثلي الإسلام السياسي يحلم بعودة الخلافة.

إن ضعف الاحتجاج على التصرف الحر من قبل الحاكم في الأموال العامة، ناتج جزئياً عن اعتبار عميق، لا يقر الاعتراض على تصرفه فيها، لأنها تتبعه بمعنى من المعاني بما هو قيم عليها مؤتمن بمنطق البيعة، ونحجب قوامة الحاكم حتى عندما يكون بريئاً من مسوح التقوى التصور العصري لمبدأ الحق العام والمصلحة العامة، فكل المطلوب منه هو الصلاح، وهذا مفهوم يصعب ضبطه وتعريف حدوده، حتى داخل مفهوم الرعاية والراعي والرعية، وكلها لا تدخل في إطار التعاقد المؤسسي الذي يحدد الحقوق والواجبات. إننا دائما أمام سلطان ورعية، وبينهما فراغ شاسع.

وجاءت سنوات الحكم العسكري في غير قطر عربي لتقوض على امتداد نحو نصف قرن مقومات ومقدمات الوعي الدستوري بعد أن طردت من مجال التداول الفكري والتربوي بذور الإحياء والتجديد والتنوير التي لم يكتب لها أن تمد جذورها بعيداً في تربة الفكر النقدي لتعطي ثماراً تستعصي على الإلغاء، ولا أدل على قوة التدمير التي أحدثها الحكم العسكري من إحياء ولاية العهد في أنظمة جمهورية في سورية وليبيا ومصر واليمن.

وإذا ما عدنا إلى الخبر- الحدث، فإن هذي البلاد تمثل نمطاً من النظام القبيلي العسكري- التجاري، ولبه المسؤولية التضامنية بين أطراف العصبية الحاكمة، ولذا يقدم لنا الخبر نصاً دائراً من الرئيس إلى الشيخ إلى ابن الشيخ والمشايخ والعسكر ثم الرئيس فيكتمل النص. وليس هناك أي خرق لقاعدة دستورية أو قانون، فالجماعة المغلقة لا تحاور إلا نفسها، وهو ما يحدث أيضاً في السياق السوري كما لاحظ الزميل برهان غليون. إن الجماعة تعمل وفقاً للعرف السائد ويستعصى ضبط سلوكها بمبدأ صوري يفترض المساواة بين الناس، بينما العرف جوهر مبدأ الامتيازات والمراتب. ويخامرنا شعور بأن المجموعة يتحدث ويحكي الخبر عنها عائلة كبيرة قد وزعت الأدوار على المنتمين إليها وتتفاوت المراتب، فالرئيس في المركز وكل ما يدور يبدأ عنده وينتهي إليه، ويحل أفراد الجماعة محل جهاز الحكم كله، فنراه بديلاً للحكومة والقضاء، ولا غضاضة أن يكون المعتدي على القضاء ممثل السلطة التشريعية، فالتقسيم الذي لا يوجد إلا في الأذهان لا صلة له بواقع البلاد وإدارة شؤون الناس، إن الأجهزة مفوضيات إجرائية.

إن تبادل المواقع وتكاملها داخل المجموعة هو الصورة المثلى لتوزيع مغانم السلطة بين أطراف جماعة تضامنية، وعيها وسلوكها مستغرق في مسلمات وأعراف الذهنية القبيلية.

إن الصورة بكل تفاصيلها ومكوناتها تقوم على ما أسماه كاتب تشيكوسلوفاكي قبل تحرر الشعبين، حيث سادت سلطة واحدة «الإقامة على الكذب» (2). إن الذين يشكون من الظلم الذي لحق بهم لأنهم سيحصلون فقط على رؤوس أموالهم، لا وجود لهم إذا ما أخذنا في الاعتبار الحكم القضائي الصادر في عدن، فالشركة لا وجود لها كما أعلنت صحف رسمية وناطقون رسميون في أوج الأزمة، بل واتهم صاحبها ومن معه من حزبه بأنهم اقترفوا جريمة خطف أمريكي للمساومة به، والأرجح أن فاعلي الخير جميعاً ومن أفلحوا في صرف المبلغ كاملاً، بعد وعود بحل الموضوع عاجلاً، أصحاب المصلحة الحقيقيون الذين يسبحون معا في النظام - الفوضى. حيث يسود نظام السلطة الواحدة كما كانت حال الأمم قبل العصر الحديث، ولأن السلطة تتركز في يد واحدة فالشكاوى والمناشدات والاستغاثات توجه إلى فرد واحد من الأفراد والجماعات. كتب مستعرب روسي قبل سنوات: إن اليمنيين عندما يتحدثون في السياسة لا يتحدثون إلا عن أفراد ولا يكادون يرتفعون إلى مستوى الأفكار. وهذا صحيح إلى حد كبير، وكذلك شأن أهل بلاده في العهد الماضي وحتى اليوم، فهناك أيضا سلطة واحدة وإن في سياق آخر ومستوى آخر وسلطة فردية في دولة توترليتارية (شمولية) تتميز بأنها حديثة عن السلطة الفردية عندنا فهذه تسلطية سلطانية.

ولا يقوم مجتمع ما على الصدق إلا في ظل ازدهار دولة القانون والشرعية والعقلانية تحضر في القانون لأنه يجلي إرادة الناس وفاعليتهم القادرة على الدفاع عن كرامة الإنسان وهي أساس الأسس كافة.

2001/7/7 م

(1) فند الزميل محمد علي السقاف الجوانب القانونية في هذه القضية في صحيفة «الأيام» العدنية في (حزيران 2001).

(2) حدثني عضو سابق في الاتحاد الاشتراكي السوداني في عهد «الإمام» النميزي الذي اعتبره الترابي مجدد هذه المائة، أن مؤتمراً للحزب ناقش باستفاضة ازدياد تكاليف بناء مصنع للسكر في منطقة نائية وبعد نقاش طويل طلب عضو جنوبي الكلمة وقال بعربية ركيكة ما مفاده أنه من تلك المنطقة ولكنه لم ير المصنع البتة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى