عام 1916 شهدت عدن أكبر مخدرة في تاريخها

> فاروق لقمان:

> أجرى الزميل العزيز والجار الكريم الأستاذ جعفر محمد مرشد حديثاً شيقاً في جريدة «14 أكتوبر» في تسعينات القرن الماضي مع الأستاذ القدير الراحل علي عبدالياس الذي عمل مدرساً لفترة طويلة في مدارس عدن منذ الحرب العالمية الأولى. وشاءت الأقدار أن أتعرف على الأستاذ الياس بعد ذلك زميلاً في مدرسة السيله مع الأساتذة حسن علي منيباري وأفضل محمد إبراهيم وسعيد محمد ومحمد علي بارحيم وكمال حيدر وأحمد هاجي وأحمد شاكر لعدة أشهر فقط قبل مواصلة التعليم في الخارج.

وقد سأل الزميل جعفر الأستاذ الياس وهو على مشارف التسعين عن أحوال البلاد والعباد منذ بداية القرن العشرين لأنه كان من مواليد 1901، وذكرياته الجميلة التي كنا نجهلها نحن تلامذته.

وجاء ذكر الأفراح والمناسبات والقطار الذي كان يربط بين المعلا والخداد، والمخادر التي كانت تميز عدن عن سواها والتي كانت تقام في الشوارع بعد استئذان إدارة المرور. وقال الأستاذ ألياس إن أكبر مخدرة شهدتها عدن في بداية القرن كانت تلك التي أقامها جدي علي إبراهيم لقمان احتفالاً بزواج ابنه البكر محمد رحمهما الله والتي أقيمت في حافة حسين لعدة أيام وليال وحضرها أكثر من ألفي ضيف وهو عدد هائل بالنسبة لسكان عدن عام 1916.

وتوفقت في العثور على مذكرات الوالد عن تلك المناسبة وفيها الكثير من الطرائف التي تلقي أضواءً على أحوال المستعمرة قبل مائة سنة تقريباً.

قال الوالد رحمه الله: «في سنة 1916 قررت أن (أصون ديني) بأن أتزوج وكنت ما زلت في ميعة الفتوة فقررت أن أقترن بابنة أحمد صالح الجمال من حافة حسين وفاتحت أمي بالخبر فقالت لي إنها تعرف الفتاة وإنها موافقة على زواجي منها، وكان عمرها 12 سنة.

«كنت أنا قد أصلحت ذات البين، بين أبي وأمي بعد فراق دام بينهما مدة طويلة.

«وفاتحت أبي برغبتي في الزواج، وقبل مبدئياً على أن تكون العروس كما يختارها هو لا كما أختارها أنا بحجة أن اختياري وقع على طفلة صغيرة وأنه هو يرغب في زواجي من فتاة ناضجة ورفض الإذعان لرغبتي واستبد بي الكدر ولم أدر كيف أقنعه وأراد أن يجبرني على الزواج بفتاة حسناء من عائلة كريمة ولكن رغائب النفوس لا تقبل بديلاً فقلت له إنني غيرت فكري في الزواج، وغضب علي رحمه الله وهجرني أياماً كدت في خلالها أن أذوب وجداً على فراقه ولم أدر كيف أكسب رضاه دون أن أحطم قلبي.

«وعلم بهذا الخلاف في الرأي الشيخ أحمد طه الهتاري ذلك الأستاذ المؤرخ، الخطيب، البليغ الشاعر العالم الرحالة الذي كان في عدن والتواهي من الأعلام الكرام وكان من أصحاب القلوب التي تسع الأرض كلها ومن فيها.

»فاجتمع بوالدي وأقنعه أن اختيار الزوجة إذا وقع من جانب الرجل كان في أكثر الحالات اختياراً موفقاً وأما إذا كسر قلب محب وأجبر على التخلي عن حبيبه فإن القلوب كسرها لا يجبر كما جاء في تعبيره ورضي أبي باختياري وكتب إلي الشيخ أحمد طه الهتاري رسالة مسجعة كانت تحفة أدبية ظلت في ملفاتي سنين طويلة لا أزال أذكر بعض كلماتها التي أثلجت صدري حيث قال:

«الفتاتان تلك التي اخترتها لنفسك والأخرى التي اختارها والدك لك كلاهما درتان طاهرتان ولم يطمثهن أنس قبلهم ولا جان فاختر أيتها هام بها قلبك (إلى آخر ما جاء في مقامات الحريري) فقد وافق والدك ورضي بما ترضاه».

«وجاءني بنفسه، رحمه الله ورافقني إلى بيت والدي وقبلت يديه وقدميه فعانقني وقبلني اشتياقاً بعد فراق دام 40 يوماً.

“ذهبت أمي إلى بيت غانم صالح بن صالح وحملت إليهم القبض بعد أن كانت قد أتمت معهم شروط الزواج، وكان أهم شرط تأخير الزواج سنة «تربية» لأن البنت كانت صغيرة السن.

«وبدأ أبي يرتب شؤون المخدرة وترك الأمر لي في كتابة بطاقات الدعوة وقد حبرتها بمساعدة الأصدقاء والأخوان.

«وأقيم المهرجان في حقبة كانت عدن قد بلغت فيها أوج رخائها الاقتصادي، التجارة قائمة بين عدن وجيزان وميدي وأمراء وسلاطين لحج والمحميات في عدن منذ احتلال سعيد باشا للحوطة، وأثرياء الحرب يرفلون في أثواب النعيم وأقيمت مخدرة لم تشهد عدن مثلها في سعة مساحتها وما فرشت به من السجاجيد «القطائف» الرومي الخشب وأقطاب الموز المعلقة و«الجبا» (أي الهدايا كل ليلة) من الأحباب والأصدقاء بلا حساب أكثر من 50 رأس كباش و15 تنكة سمن و20 كيس رز وكثير من الأثاث والقطائف فقد كان أبي معروفاً عند الخاص والعام وكنت أنا أيضاً معروفاً جداً وأهداني صديق أبي وصديقي محمد عبدالله باحشوان 20 مروحة فضة ومجامر فضة أتى بها من الشحر وأهداني عبده حسين عبده مجموعة من العطور الفاخرة فقد كنت أكتب له إلى الخارج.

«وطبخ الغداء لأول مرة بالبوتجاز والشعلة وظل الناس يأكلون حتى الساعة الثالثة والنصف ثم حضروا المقيل والسمر وأحيا الحفل السيد محمد طالب وأخواه أحمد وهادي ودرويش وولده وهادي سبيت. وبلغ النقط تلك الليلة لهم 3000 روبية وكان النشاد التريس ونقطوا له 700 روبية وألبسني الأمير علي بن أحمد فضل العبدلي سيفاً من الذهب وجنبية ذهب مطرزة بالأحجار الكريمة وأعطاني أخوه فضل بن أحمد500 روبية.

«وقد حضر الغداء والمقيل والسمر في هذه المخدرة أكثر من 2000 رجل من الأعيان والأهل والأصدقاء وأني لا أزال أتذكر أن عدد الوسائد التي جمعناها فاقت 2000 مخدة من المبارز والبيوت وكانت أكثرها جديدة. ولم يقتصر حضور الضيوف على العرب ولكنه شمل كل الطوائف من سكان عدن وأقيم شبه سرادق خاص بالأجانب في المخدرة.

«ووضعت أمامي لأول مرة في حياتي المداعة ولكن أبي أمر أن لا يعمر البوري وقد عشت 20 سنة بعد ذلك لا أدخن بحضرته ولم يرني قط أشرب الدخان سوى مرة واحدة ليلة وفاة أم علي حين فقدت كل عقلي واتزاني ولم أدر ما كنت أفعل هذا رغم أنني بدأت الدخان وعمري 11 سنة.

«والشباب يعيش مقلداً لأقرانه في الدخان والخمر والقات والجنس الحرام ولكن سهر والدي على سلوكي حفظني من التورط في بعض هذه الأمور وقد قاطعت الدخان نهائياً كما قاطعت القات والتمبل منذ سنوات عديدة وكان أبي يشجعني على أكل القات ويمونني به كل يوم تقريباً.

«وأعطيت لي شخصياً من أصدقائي وزبائني 20 جنيه ذهب هذا خلاف النقد وقد أرسل لي في السمرة صديق 150 روبية فضة وكان مهرجاناً قل نظيره في تاريخ عدن».

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى