قاض إنجليزي يحكم بنفي الطفل عبده زنقور دون أن يراه

> فاروق لقمان:

> لا أدري إن كان هناك في عدن ما كنا نسميهم كتاب العرضحات أي أولئك الذين يعدون بالإنكليزية رسائل تعرض حال الزبون لتقديمها إلى السلطات الاستعمارية التي لم تكن تعترف بالعربية رسمياً رغبة منها في تشجيع استخدام الإنكليزية لغة رسمية لكافة الأغراض. لذلك كانت «العربية» أيامنا مجرد حصة واحدة في اليوم بعد المرحلة الابتدائية. وكان هؤلاء يشكلون صفوفاً أمام كل واحد آلة كاتبة قديمة وكرسي أقدم ومعه رزمة من الأوراق يكتبون عليها الرسائل حرفاً حرفاً لأن أغلبهم كانوا لم يتعلموا الضرب عليها بطريقة «بيتمان» أي بالأصابع العشر التي تعلمها الناس بعد أعوام بفضل افتتاح المربي الهندي العصامي راجا منار مدرسته التجارية في الرزميت التي تخرج فيها عدد كبير من الشباب التحقوا بالخدمة المدنية وعلى رأسها البلديات. فقد كانت السياسة التعليمية للحكومة تقتصر على مناهج محدودة جداً لا تؤهل خريجيها إلا للعمل في مهنة «كراني» وهي هندية تعني موظف صغير جداً.

وكان الشارع الذي يفصل بين مدرسة اليهود للبنين - حالياً المكتبة العامة - ومدرسة اليهود للبنات هو الموقع المفضل لكتبة العرضحالات الذين ازدهرت تجارتهم قبل ظهور المحامين المتخرجين في الهند وأولهم الشيخ محمد عبدالله والد الصديق المحامي طارق حفظه الله.

ولما تخرج الوالد محمد علي لقمان في مدرسة البادري بالتواهي عند نهاية عام 1916 وأتقن اللغتين بحكم إشراف والده علي إبراهيم الذي كان ضليعاً باللغتين ومترجماً محترفاً، اشتغل بالمهنة قبل توجهه للهند لدراسة الحقوق في الجامعة بحوالي عشرين عاماً، واشتهر كثيراً عندما نجح في الحصول على البراءة للسيد عتيق متواح وأخرجه من السجن باستئناف الدعوى الجنائية التي كانت قد رُفعت ضده وحكم فيها عليه عاماً بالسجن. كما حصل على البراءة للسيد صادق سنبل من أهالي الشيخ عثمان الذي حكم عليه بالسجن خمس سنوات في دعوى أقامتها الشرطة عليه وعلى زميل اسمه الصدة بتهمة بدت للوالد باطلة لأنها شملت زعماً بسرقة بنادق من مخازن جبل جديد التي لا يستطيع أن يدخلها إلا جبابرة الزمان.

وهكذا اشتهر رحمه الله واتسعت أنشطته وهو يعول أمه وأشقاءه بعد انفصالها عن والده. ويواصل حديثة ليشمل حكاية شيقة ظل يتذكرها الناس جيلاً بعد جيل ستتضح معالمها في السياق التالي.

يقول رحمة الله عليه: «ولكن المحصول الضخم كانت تدره علي كتابة الرخص لتصدير البضائع والإسهام في الحصول عليها فقد أعطاني ذات مرة الشيخ بوبكر معلم 1000 روبية مقابل مساعدته على الحصول على رخصة لبضاعة إلى جيزان إذ كتبت له عريضة مرفقة بالرخصة شرحت فيها الضرورة الملحة لإرسال البضاعة.

«وجاء إلى عدن الشيخ سالم بن يماني المليونير الكبير ودعاني وطلب مني أن أترجم له إلى اللغة العربية وثائق مهمة تكاد أن تكون رسالة طويلة واشتغلت بالترجمة أكثر من 10 أيام ولما ذهبت بها إليه وأطلعته عليها أمر لي بخمسين روبية، فصعقت وقلت له لا بد من مراجعة هذه الأوراق وأخذتها وذهبت ولم أعد إليه فكان يرسل رسوله كل يوم عشر مرات (وأنا مغني جنب أصنج) واشتكى بي إلى السيد حسين بن حامد المحضار فذهبت وشرحت له واقع الأمر في بيت بكار باشراحيل فضحك كثيراً، وقلت له إنني لن أقبل أقل من 1000 روبية الآن وكنت منتظراً ضعف المبلغ «وأصلح أصلحك الله» على 500 روبية.

«وكنت أكتب الشكاوى والمطالبات وعرائض الاستئناف فنافست حسن الشيخ بن الشيخ محمد عبدالله خليفة وأخاه أحمد وزكريا سليمان اليهودي وأخاه أهريني وعبدالله روبرتس وجوفد ويحي طيبي وأخوه شليمي وأحمد علي حريري والعميسي وغيرهم من كتاب العرضحالات.

«وكان القاضي السيد رستم علي كثيراً ما يناديني ويطلب مني شرح بعض النقاط التي كنت أثيرها وكان رفيقاً بي وهو رب عائلة كبيرة وسيدها وعميدها ومن رجالها سلطان علي وإمداد علي وأنور علي والأستاذ أحمد علي ومن أقربائه الأستاذ يعقوب خان.

«وكان قاضي الجزاء في عدن وقاضي الشئون المدنية وقد وضع مؤلفاً باللغة الإنجليزية في أمور تسيير القضايا في المحاكم.

«أما قاضي الجزاء الأول في التواهي فكان الميجر سترونج ولم يكن بطبيعته رجلاً فظاً ولكنه كان إنجليزياً عسكرياً وقد حكم بالنفي على عبده زنقور إلى البريقة وجاءت أمه تستجير بي فكتبت لها عرضحالاً قلت فيه: «إن البوليس أفلح في عصب عيون المحكمة إذ ذر الرماد في عيونها فجعلها تظلم أماً باكية على ولدها الذي نفته المحكمة إلى أرض غير أرضه».

«وغضب الميجر سترونج غضباً شديداً وبعث مفتش البوليس ليحملني إليه من عدن إلى التواهي وأدركت السبب وكان المفتش كرستان - مسيحياً - ظن أنني قد اقترفت جرماً شنيعاً فلم أخاطبه ووصلنا إلى المحكمة ووقفت في قفص الشهود وكان هذا القفص في الوسط وعلى جانبيه يقف المدعي والمدعى عليه وقد تبدل الوضع الآن.

«وقال لي اسمع، وقرأ لي الفقرة المشار إليها.

وقال هل كتبت هذا الكلام السيئ؟

فقلت نعم!

قال وهل تفهم معناه؟

قلت نعم..

قال “إنني سأسجنك!»

«قلت لا بأس ولكن بعد أن تطلب الشخص الذي نفيته من عدن وتراه بعينيك فإنك قد حكمت عليه بالإعدام لجنحة صغيرة وتغير وجهه وغضب غضباً شديداً، فقال ولماذا تريدني أن أراه..

«قلت لأن عمر هذا الإنسان سبع سنوات وأنت فرقت بينه وبين أمه وتركته بدون ولي يشرف عليه في البريقة وكانت أيامها قفراً مفزعاً.

«والتفت الحاكم إلى مفتش البوليس يسأله عن المنفي فقال إنه لا يعرفه فأمر بأن يذهب عسكري ويأتي به من البريقة على زورق بخاري.

«وبعد أكثر من أربع ساعات جاؤوا بالطفل عبده زنقور ورآه الحاكم وقد ظل في المحكمة حتى الساعة الواحدة بعد الظهر وكان الولد يبكي وقد ذهب إلى حضن أمه وهو في حالة يرثى لها.

«وسأل الحاكم الولد عن جريرته فقال إنه دخل دكة المعلا ووجد قفلاً صغيراً على الطريق فالتقطه وعندئذ قبض البوليس عليه، فأطلق الحاكم سراحه، وخرج دون أن يلتفت إلي ومع هذا قلت إنه لم يكن غليظ القلب لأنني عرفت بين الضباط الإنجليز من كانوا أغلظ قلوباً وأسوأ معاملة».

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى