تأملات رمضانية

> فضل النقيب:

> في شهر رمضان المبارك متسع من الوقت للتأمل في نهاره، كما هو الحال لـ (المخزنين) في ليله من عشاق القات (أبوزربين)، ونستثني من ذلك نساء بلادنا اللواتي لا نهارهن نهار ولا ليلهن ليل، فهن في عمل دائب منذ صباح الله إلى السحور إلا من نتفٍ من الراحة لا تغني ولا تسمن من جوع، والغريب أنهن لا يطلبن مقابل كل هذا العناء جزاءً ولا شكوراً، إلا ما جاء عفو الخاطر، فيض ندى وطيب خلق من لدن كرام الناس الذين يرفقون بـ (القوارير) كما أمر الرسول الأعظم، وفعل الكرام هو عين العقل الذي كرم الله به الإنسان والذي يقول العرب عنه إنه لو صُوِّر- أي العقل- لأضاء معه الليل، ولو صُوِّر الجهل لأظلم معه النهار.. ووفقا لأبي الطيب المتنبي:

لولا العقول لكان أدنى ضيغم

أدنى إلى شرف من الإنسان

والحق أن التأمل الحُر هو أقصر الطرق لصناعة العقل، ولاستيعاب معاني ما يجري حولنا وما نطلع عليه مقروءاً ومسموعاً ومرئياً، وهو معمل النسيج الثقافي الذي يمكّن من الربط بين الظواهر المختلفة والآراء المتعددة للخروج منها بنسق نسميه الثقافة، وهي ما ينطبع عميقاً في النفس ويجيزه العقل ويصدقه العمل، ونجد كثيرين لديهم معلومات يفيضون بها فيضاً، ولكن ليس لديهم نسق لأنهم يفتقرون إلى ملكة التأمل، وبذلك يحرمون أنفسهم من تربية (العقلانية) في عقولهم، وهي التي تمكنهم من فحص ما يعرض عليهم ومحاكمته واتخاذ قرار فيه، لذلك تجد الواحد منهم وهو المُفَوَّه البليغ المنطيق في المجالس والأسواق يسير بغريزة القطيع فيقفز إلى السيل الجارف لأن (سيناً) من الناس الذي يقلده قد سبقه في القفز كأي كبش، وهذا الداء العضال الذي هو صورة من صور الجهل الفاضح يشبه السرطان المستشري لا تشفيه العقاقير ولا تفيد معه المشارط، أما النصائح فهي كبيع الشعر في سوق الكساد، وللمتنبي:

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله

وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم

قيل لـ (بهلول) عدّ لنا المجانين، فقال: هذا يطول ولكني أعد العقلاء. وبهلول هذا الموصوف بالغفلة أصاب كل الإصابة، لأنه حتى المجنون يعتبر نفسه أعقل العقلاء، والمثل الشعبي يقول «كلٌّ بعقله مستريح».

لي صديق أودّه عن بعد وأتسقط أخباره، وأتمنى له الخير كل الخير، فإذا صادفته وتبادلنا الحديث أشعر أنني أختنق، فعلى قدر عقله الذي يستريح إليه، ولكن لا يتعب عليه، يقيس أمور الدنيا فيما يعنيه ولا يعنيه، ويريد مني- وقد حال بيني وبين أي تعقيب لأنه يندفع كالمدفع الرشاش حتى تجحظ عيناه من العجلة واللهوجة- أن أوافقه صراحة لا مواربة، ويبقى على هذه الحال حتى يأخذ الـ (أوكيه) فيطلق سراحي، وأتنفس الصعداء، وأنا من طريق وهو من طريق.

كان ابن المقفع والخليل بن أحمد الفراهيدي يريدان أن يجتمعا فالتقيا لثلاثة أيام يتحاوران، وقد سئل ابن المقفع: كيف وجدته؟ فقال: وجدت رجلاً عقله زائد على علمه. وسئل الخليل، فقال: وجدته رجلاً علمه فوق عقله. وقال أحد العلماء: لقد صدقا، فالخليل مات في كوخ وهو أزهد خلق الله، بينما تعاطى ابن المقفع ما كان مستغنياً عنه من التقرب إلى أهل الحكم، فقُتل أسوأ قتلة.

إن التأمل، مقروناً بالمعرفة وقدْح العقل بعيداً عن التحيز الغريزي للإنسان، قد يريك الجبل حصاة تضعها في جيبك، فلا يشغلك من دنيا الناس سوى الجوهر الكريم وليس الغرض الزائل، وقال الشعبي: أصاب متأمل أو كاد، وأخطأ مستعجل أو كاد.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى