فتنة الدال

> أبوبكر السقاف:

> تقول قاعدة علمية منهجية إن كل علم يتحدد بموضوع ومنهج، وعندئد فقط يمكنه الانطلاق وإلا تاه في خضم علوم أخرى مرة بالخلط في الموضوع وأخرى في القفز من منهج إلى آخر، وبعد تحديد الموضوع والمنهج يصبح محالاًً ممارسة هواية الفقر، فما يصلح في الاقتصاد لا يمكن أن ينفع حتى في علم مجاور مثل الاجتماع، أما إذا كان الموضوعان بعد البيوليوجيا عن التاريخ فإن فرض منهج الأول على الثاني يؤدي إلى تزييف المعرفة منذ لحظة البداية، ورغم ذلك هناك مؤرخون مشهورون اقترفوا هذا الخلط فأصبح التاريخ عندهم عملاً فنياً، ويقرأ طلباً للاستمتاع بالنثر الفني.

كان أحد ساسة عهد الإمام أحمد يقول مازحاً لسلطان لحج إذا كانت لحج ترى أنها أم عدن، فإن اليمن المتوكلية تعتبر نفسها أماً للحج، ولأن الذهنية القبيلية تدور في إطار علاقات الدم والقرابة ووهم الحبر الأكبر ولا تستطيع هذه الذهنية أن ترتفع إلى مستوى نظري في تصور العلاقات الاجتماعية والسياسية فإن الأمر مقبول في إطار التفكير العامي. وعندما قال الأحمر الأب شفاه الله وعافاه في الاسبوع الأول من عمر الوحدة الفورية الاندماجية التي دخلت غرفة الإنعاش منذ يوم مولدها، إن الفرع رجع إلى الأصل كان يفكر في إطار الذهنية القبيلية، التي لا تنظر إلى السياسة إلا من الأنساب، والأصل والفرع، وهو نزوع قوي في هذه الذهنية يقدس البدايات، رغم أن أسطوريتها بل وإمعانها في الخرافة واضح.

إن هذه اللون من التفكير لأنه شديد العامية لا يستطيع إلا أن يعتمد على التشبيه، علماً بأن كل تشبيه أعرج لأنه لا يفي بالغرض إذا ما أردنا معرفة قضية ما معرفة يقينية وإقامتها على البرهان، وهذا يتطلب دراسة عينية لها وتحليلاً داخل هذه العينية، ولذلك كان حديث الأم والخالة والابن والبنت المنقول إلى السياسة وقضايا الوحدة في المستويين المحلي والإقليمي والعربي الجامع ضرباً من فرض موضوع ومنهج من مجال القرابة والعشيرة والأحوال الشخصية إلى عالم السياسة والمصلحة. إن ما يغري بترداد هذا الحديث البليد هو سطحيته التي قد تكون جواز مرور لإقناع القارئ، من ناحية، وعدم معرفة صاحبه «بمنهج» آخر، للتفكير في السياسة التي أصبحت منذ قرون علماً دنيوياً علمانياً استقل بموضوع وبمنهج عن اللاهوت.

كان البلاغيون العرب يعرفون التغيير الذي ينطوي عليه التشبيه، ولذلك تمكنوا من ضبط المعاني والدلالات وعرفوا الحدود بينها، وكانوا يقولون إن التشبيه لا يتطابق طرفاه، فالمشبه به يشبه بغيره وإلا كان هو هو ولم تعد هناك حاجة إليه، واستنتجوا أنه أياً كانت العلاقة بين طرفي التشبيه فإنها تفيد الغيرية لا العينية. أورد هذا بإيجاز حتى يحاول أصحاب الألقاب وحملة الدال الخروج من دائرة العامية إلى رحاب العلم. وأتذكر قول الزميل عزمي بشارة «إن فتنة الدال لا تحجب الجهل» وما أكثر المفتونين به في جامعاتنا ودولتنا الرشيدة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى