رمضانيات في الكتابة..

> فضل النقيب:

> صدق الكتابة الذي يستشعره القارئ اللبيب بقلبه لا يأتي من الفراغ وإنما من صدق الكاتب وإخلاصه ودقة نظره وتمرسه بما يكتب، إذاً فهو صدق ينبع من صدق، وقلب يرسل إلى قلب، ولا يكون ذلك أبداً مع الكتابة الماسخة الدعيّة لديوك الأقلام الذين يعتقدون أن الشمس لا تشرق إلا استجابة لصياحهم، فكم من كاتب تقرأ له الكلام المتوقد وترى لديه الجرأة الفائقة في تناول مواضيع شائكة بخفة ودون تدبر، لا عن جهل ولكن عن هوى، فالجاهل يعذر لأن العلم بالشيء مغيّب عنه، أما صاحب الهوى فلا عذر له لأنه يحيد عن الحق وهو يعرف، فما الفرق بينه وبين سماسرة الأسواق الذين يحلفون الأيمان المغلظة لبيع بضاعة كاسدة وهم يعرفون حق المعرفة أنهم يكذبون.

تعلمت درساً من فتى يماني كنت ألاحظه دائماً في المقهى يقرأ أكثر من جريدة، فسألته عن الكُتّاب الذين يقرأ لهم، فسمى أكثر من واحد، وشطّب على كثيرين، فلما استوضحته قال: أقرأ للذين أشعر أنهم يحبونني. أدهشتني هذه الإجابة غير المتوقعة من قارئ في أول سن الشباب بل إنه كما فهمت لم يتلق تعليماً نظامياً وإنما بمجهوده الذاتي دلف عالم القراءة، وقد طلبته مزيداً من الإيضاح فقال: الكاتب الذي يحبني يجهد نفسه لتصل فكرته إلي واضحة ومرتبة ومبسطة دون تعقيد ولا ضجيج، أما النوع الآخر فأشعر أنه يتعالى ويستعرض ذاته دون أن يضعني كقارئ في الاعتبار أو يبذل أدنى مجهود ليمد لي يده ويرفعني إليه، أشعر به كأنه واقف أمام مرآة يتغزل في نفسه، وهذا النوع بيني وبينه حد الله وكل واحد منا من طريق.

لقد مر على هذا الحديث العابر حوالي خمسة عشر عاماً ولكنه لم يفارق ذاكرتي واعتبرته من المقاييس الممتازة للعلاقة بين القارئ والكاتب، وينطبق المعنى على المحدّثين في الأجهزة المرئية والمسموعة وحتى على المعلمين في مدارسهم والمنظرين في المجالس لأن الغرض من كل أنواع التواصل بين الناس هو إيصال المعنى وجذب اهتمام المتلقي، فمن عجز عن ذلك فليبحث له عن مهنة أخرى حتى يفتح الله عليه بالقول المرتب السهل عليه الممتنع على غيره ممن يهرفون بما لا يعرفون، والذين لم يسمعوا بقول المتنبي:

إذا ما صافح الأسماع يوماً

تبسمت الضمائر والقلوب

وما أجمل قول ابن أبي طاهر:

إن خير الكلام ما ليس فيه

عند من يفهم الكلام كلامُ

أي أنه معنى خالص يصل الأفهام كأنما من غير كلام. كان لي زميل نعمل سوية في إحدى الصحف، وكان طموحاً متطلعاً إلى أوائل الكتّاب من أصحاب الشهرة والمقدرة، كما أنه على خلق كريم يخجلك أن تنصحه بأمر فتجرحه، ومع ذلك فلا بد مما ليس منه بد، لأن المجاملة على حساب العمل خط أحمر في بلاط صاحبة الجلالة «الصحافة» فما تغضُّ عنه عينيك إن كنت مثلي مراجعاً تعمل عمل المصفاة الأخيرة، أي من يدك إلى المطبعة بعد التدقيق، فإن مائة ألف هي عيون القراء ستكشف عدم وفائك في تدقيق ما تجيز. والخلاصة أن صاحبنا أقنع رئيس التحرير بأن يكتب عموداً يومياً، وبدأت المعاناة، وإعادة تحرير المادة من حيث ضبط المعنى والنحو والصرف واللتّ والعجن حتى لتبدو الورقتان متاهة حقيقية بعد التصحيح توجع قلوب القائمين على الجمع وعيونهم فيتأففون ويضعونها دائماً جانباً فتتأخر الصفحة التي فيها عمود صديقنا، وبالنسبة لي فإن كتابة خمسة أعمدة أسهل من إعادة كتابة عمود لا رأس له ولا ذنب، وحين فاض الكيل استدعيته وقلت له: يا فلان.. كلٌّ ميسرٌ لما خلق له، وأنت لست من أهل العمود، وما تراه على الصحيفة لم يعد من كتابتك، فإلى متى؟! ثم قلت له: إن الفكرة يتم السيطرة عليها كما يسيطر على الكبش الردّاع بإمساكه من قرنيه، وأنت دائما تفعل العكس ولذلك يصرعك الكبش أو يهرب منك أو توسخ يديك.. بعدها أقلع على مضض، ولكنه لم يغفر لي نصيحتي.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى