دمعة على عين اليمن

> سعيد عولقي:

> من المرات القلائل التي أقرأ فيها كتاباً عن اليمن لكاتب أجنبي وأشعر فيه وأنا أمر على الكلمات والسطور أن هذا المؤلف يمني مثله مثل أي مؤلف يمني يمتلك رؤيته الخاصة نعم.. ولكنه يدخل إلى الأماكن ويقابل الناس ويسمع منهم ويخرج إلى الخلاء الفسيح ليحلق بأفكاره في الفضاء يحلل ما سمع ورأى، ويحاول أن يفهم تركيبة الشخصية اليمنية ويبني عليها تصوراً سرعان ما يتهاوى عندما ينتقل إلى منطقة أخرى.

الكتاب هو (اليمن الأئمة والحكام والثوارت) من تأليف هارولد أنجرامز، ترجمة نجيب سعيد باوزير، ومراجعة عبدالكريم سالم الحنكي (صدرت طبعته الأولى هذا العام 2007م عن جامعة عدن - مركز البحوث والدراسات اليمنية).

ما يعطي لهذا الكتاب ميزة خاصة هو أن مؤلفه أنجرامز ليس من ذلك النوع من الكتاب الذين يحترفون التأليف، تأتيه الفكرة فيذهب إلى موقع الأحداث أو قد لا يذهب ويكتفي بتجميع مراجع وافية تغطى ما يريد تناوله في مؤلفه وكفى، لا.. هارولد أنجرامز عاش ما كتب، وحسب علمي أنه قضى العديد من السنين في عدن بالذات (ضابط سياسي في مستعمرة عدن عام 1934م، المستشار المقيم البريطاني في المكلا من 1937م حتى 1944م، حاكم مستعمرة عدن بالإنابة عام 1940م، ثم الوكيل الأول لحكومة عدن من 1940م إلى 1942م).

وعندما أقول إن أنجرامز عاش ما كتب فلا يعني ذلك على الإطلاق أنه كتب مذكرات أو ذكريات عن فترات حكمه أو أنه كتب عن تجربته في الحكم، أبداً على الإطلاق.. الرجل لم يذكر من ذلك شيئاً إلا إذا اقتضاه سياق موضوع الكتاب، ولم يكن ذلك السياق يقتضي شيئاً كثيراً من ذلك، بل إنه يكاد لا يقتضيه إلا نادراً في شاردة هنا أو واردة هناك.. وما أريد أن أقوله هو أن أنجرامز الموظف استفاد من وظيفته في موضوع تأليف كتابه.. بمعنى أنه استوعب مهام تلك الوظيفة واستفاد مما أتاحته له من تنقلات ولقاءات وإلخ.. واختزنها في ذاكرته لعله يستفيد منها ذات يوم، ومرت الأيام والسنوات العاصفة باليمن والمنطقة، وتشكلت نتيجة ذلك دنيا جديدة أخذت معها ما أخذت من موروثات الدنيا القديمة.

ويمضي بنا كتاب أنجرامز الذي تنتهي أحداثه في منتصف الستينات، وفي الصفحة الأخيرة يقول بالنص: «إن العالم العربي لا يمكن أن تتوحد أجزاؤه إلا عندما يظهر رجل قوي.. وهذا الرجل القوي قد يكون اسمه في الوقت الحاضر عبدالناصر أو قد يكون اسمه ابن سعود تماشياً مع النمط التقليدي، ولكن المشكلة أن مثل هؤلاء الرجال لا يتركون بعدهم عادة خلفاء في مقدرتهم، وعندما يزول اليمن المصري واليمن البريطاني كما زالت قبلهما كل الهويات الأجنبية لليمن فإنني لا أشك بأن اليمن سيبقى على ديدنه القديم في الانقسام، فإن طبيعة الأثرة والفردية عند العرب كفيلة بذلك، ولهفتهم للفوز بالمغانم المادية لهذا العالم ستقودهم حتماً بعيدا عن التسامي الروحي الذي كان سمة من سمات حياتهم في الماضي.. ومعنى ذلك أن التحديث سيأخذ مدى أبعد، ولكن دون أن يكون هناك اتجاه أكثر نحو وحدة متماسكة إلا إذا كان نكاية في حكم مكروه من الشعب أو استجابة لبريق فكرة جديدة، وإذا ولدت هذه الوحدة في اليمن فلا شك أنها ستدفع باليمنيين إلى الأمام، ولكن لا بد أنه سيمر وقت طويل قبل أن يمكن لأي أفكار جديدة أو وعي اجتماعي عميق أن يتغلب على تلك الأفكار القديمة التي ترسخت بين هؤلاء القوم المحافظين ذوي الفردية العربية الموغلة في القدم».

«وحتى يأتي ذلك اليوم يمكن أن توجد جنباً إلى جنب جمهوريتان، ليس فقط جمهوريتان أو أكثر.. بل أيضاً إمامة زيدية إذا ضربنا صفحاً عن إمكانية قيام دويلات لأسر حاكمة، وبعبارة أخرى ستكون هناك نسخة عصرية لذلك النمط القديم الذي مافتئ يأخذ أشكالاً متعددة، وحتى في هذه اللحظة الراهنة فإن أولئك الذين يقاتلون (إلى جانب البدر) لا يقاتلون (من أجله). وإذا وجدت هناك دولة رئيسية واحدة فإنها ستكون في حاجة إلى حاكم مطلق السلطان ذي شخصية قوية، وقد يكون هذا الحاكم من الطراز الحديث أو الطراز التقليدي الذي ربما مازال حظه في البقاء أوفر لفترة أطول، ولكن أياً كان هذا الحاكم فهو لا بد أن يمتلك نظرة أكثر عصرية مما كان لدى الإمام أحمد. أما عن عدن فإنها إذا لم تربكها السياسة، وإذا حظيت بإدارة جيدة (كانت باستمرار قادرة على تقديم تجار جيدين ولكن لم يحدث أبداً- كما أعتقد- أن قدمت حكاماً ذوي شأن) ستستطيع إذا سمح لها أن تحافظ على أداء دورها الطبيعي والتاريخي باعتبارها (عين اليمن)، ولكني أشك أنها ستصبح في يوم سعيدة ومزدهرة كما كانت قبل أن يكف الناس عن النظر إلى بريطانيا باعتبارها (وجوداً مفيداً).. ولأترك الكلمة الأخيرة للورنس (يجب أن يكون هناك وقت كافٍ أمام الجزيرة العربية لكي تناضل من أجل مصيرها الحاسم والصعب)».

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى