قصة قصيرة ..درب الندم

> «الأيام» عبدالله قيسان:

> واعلى امحنّا واعلى امحنّا ** واعلى امحنّا واعلى امحنّا ..أصوات ناعمة وأخرى غليظة امتزجت تلك الليلة البهيجة، والبيت يعج بالحركة، واختلط الرجال بالنساء: من صديقات وجارات، إلى زميلات دراسة ورفيقات عمر، ثم أطلق الرصاص بكثافة في الهواء .. وفي الخارج كان الشارع مقطوعاً بحشود من الناس: الأطفال والعجزة والشباب ينتظمون في حلقات راقصة بالطبول والمراويس .. وأبواق السيارات على آخرها.. لم يبق أحد في البلد .. الكل مشارك في العرس الكبير.

- الله الله .. ايه ذا؟

- ما لك يا بو محمد؟

- أنا عمري ما شفت عرس زي ذا.

ولم تكن (بلقيس) تتوقع أنها ابتدأت طريق الحيرة والعذاب، وهي تمزج دموع الحسرة وآهات الندم بشريط الذكرى الجميلة .. ذكرى أكبر عرس وأسرع عرس في الدنيا، ولم تستطع الكآبة التي سيطرت عليها أن تقضي على ذلك الوجه الوديع، ولم تقدر الدموع التي تشرب منها اليوم، أن تحبط نظرات الأمل نحو المستقبل برغم تعثر النصيب لمرات .. ولكم ازداد احترامها وتقديرها للعم (صالح) الذي مازالت كلماته محفورة في الذاكرة، يردد صداها الزمن، قبل أن يقع الفأس في الرأس:

- يا جماعة في اختلاف بين ..

- يا عم (صالح) يمكن هذا نصيبها.

- وبعدين ذي وصية الوالد.

- لكن مش بهذه السرعة .. نعمل خطوبة ونشوف (قال العم صالح).

- خير البر عاجلة يا عم صالح (كل الأهل قاموا ضده).

عظمة الحدث، وسرعة دراميته، والارتجالية، والضجة الكبيرة للعرس، مازالت مسيطرة على وجدان الناس الذين شاركوا فيه وعاشوه.. ورُب ليلة فرح راقصة سيتذكرها الأجيال، حين انطلق الناس بعفوية وإخلاص أثناء الحفل:

نجيم الصباح .. ايش جلسك بعد ما سرنا

نجيم الصباح .. جلّسني الورد والحنا

نجيم الصباح ..

كانت مجاميع من أعيان البلد يوزعون الحلوى والبسكويت، والطبل يعلو رنينه ليسمع على مسافات، والكل فاقد صوابه في معمعان التصفيق والغناء والرقص المختلط بين شباب وشابات في ربيع العمر، كانت النسوة يرمين الفل على الحلبة وفوق رؤوس الراقصين، والطبالون فرحون بالنقود التي تنهال عليهم من هنا وهناك .. الفساتين المزركشة والذهب يزين الأعناق والمعاصم، والرجال بالبذلات الفخمة افرنجية وشعبية، والسماء مشتعلة بالألعاب النارية الملونة، وأسراب من حمام الدور تحلق في المساء المقمر الجميل.

وكان وسط الحشد رجل مسن لم يستطع السيطرة على دموعه .. فكم كان يتمنى ذلك الفرح لمثل (بلقيس) .. طيبة ومثقفة .. وبنت حلال وكم صبرت..

وغير معقول أن يقبل أهل البلد أن أكبر عرس رأوه وشاركوا فيه يصبح سرابا، ولم يصدقوا أن بنتاً مؤدبة ومثقفة مثل (بلقيس) تجازى بعريس (اعرابي) ثقافته (بيت الطاعة والعصمة بيد الرجل) .. يا لهذا النصيب الخائب والبخت المائل:

- ما لك يا بلقيس .. طالت الزيارة؟ (سألت جارتها).

- كمل النصيب.. الاختلاف كبير يا (هدى).

وكادت (هدى) أن تقع من هول الخبر، ولكن (بلقيس) احتضنتها.. كانت (بلقيس) مصممة على تقبل الحدث مهما خلق من ظروف نفسية وأسرية.. وجلست (هدى) مصدومة بالخبر مقارنة بزواج أول من نوعه، شاركت فيه بكل مشاعرها وباركته السماء.. وينتهي هكذا!!

وكانت لحظة تأمل كفيلة بالتقاط طابور من السيارات مزينة بالورد والزخارف، بانتظار خروج العروسة الصبورة، التي احتشد آلاف الزميلات لزفافها من المدينة إلى الريف:

ذكر النبي فايدة.. يا ناس صلوا عليه.. ذكر النبي فايدة.. آلاف صلوا عليه ..

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى