«الآثار الشعرية» اكتملت بالعربية مع شروح ومقاربة نقدية ..كاظم جهاد يرقى بترجمة رامبو إلى مصاف الإبداع

> «الايام» عن «الحياة»:

> اكتملت أخيراً «آثار» الشاعر الفرنسي أرثور رامبو في ترجمتها أو بالأحرى في صيغتها العربية بعد أعوام طوال عكف الشاعر العراقي كاظم جهاد خلالها على تعريب قصائد هذا الفتى الساحر «العابر الهائل» أو «النيزك» بحسب ما سمّاه مواطنه الشاعر مالارمه.

لم يترجم كاظم جهاد رامبو فقط بل «صنع» قصائده وصاغها بالعربية أو كتبها، متجاسراً على هذه اللغة الفريدة بأسرارها العصيّة أبداً. هذه «الآثار الشعرية» (دار الجمل، 2007)، انطلقت من «أنقاض» الطبعة الأولى، التي كانت صدرت قبل نحو عشرة أعوام لتكتمل صناعة وشروحاً. ويمكن اعتبارها بمثابة الطبعة الحقيقية الأولى نظراً الى أن الطبعة التي سبقتها لم توزّع بتاتاً وبدت حافلة بالأخطاء الطباعية في القصائد والشروح. وصدور هذه الطبعة قد يكون حدثاً بذاته، شعرياً و «تعريبياً» ونقدياً. فالجهد الذي بذله جهاد يذكّر بما بذله كبار المترجمين العرب القدامى والمحدثين. هذا حدث يسجل فعلاً في تاريخ الترجمة العربية ليس لدقة الترجمة وأمانتها وشعريتها وخلفيتها النقدية فقط، وإنما لأنها تعيد النظر في فعل الترجمة نفسه، مرتقية به الى مصاف الإبداع الحقيقي. ومن فضائل هذه الترجمة أنها تنهي إشكالاً ثقافياً لطالما ناءت به حركة الشعر العربي الحديث، يتمثل في عدم ترجمة رامبو الى العربية بعد مضي نصف قرن على ولادة القصيدة الحديثة، لا سيما أن شاعر «اشراقات» – هو المؤسس الفعلي لقصيدة النثر. ولئن تصدى بعض الشعراء العرب سابقاً لهذا الشاعر وترجموا قصائد له ومنهم على سبيل المثل شوقي أبي شقرا وخليل خوري ومحسن بن حميدة، إضافة الى الرسام المصري رمسيس يونان، فإن ما ترجم لم يكن كافياً لترسيخ صورة رامبو عربياً، خصوصاً أن الترجمات السابقة هذه عرفت هنات كثيرة كما يعبّر جهاد في مقدمته.

ينطلق كاظم جهاد في ترجمة «آثار» رامبو، نظرية وفعلاً، من مقولة فالتر بنيامين في أن «الترجمة شكل» مدركاً في الوقت نفسه أن الشكل ليس في قرارته إلا العمق متجلياً، بحسب مفهوم البعض ومنهم بول فاليري. هكذا حرص جهاد على المعاني حرصه على الشكل الذي تجلّت فيه، فكان مخلصاً للنص الأصل لغوياً ونحوياً وإيقاعياً ودلالياً مراعياً الخصائص الأسلوبية الجمّة التي تميزت بها قصائد رامبو (المتوازيات النحوية، التصاديات الداخلية، تعدد الأصوات والمستويات اللغوية...). ولم يسع الى تغريب العربية أو «مسخها» كما يقول، ولم يدخل اليها إلا القليل من «الانزياح» و «الاقتضاب» وفق ما افترض النص نفسه. في هذا القبيل يمكن دحض مقولة «إن الترجمة خيانة» التي وصفها بورخيس بـ «الخرافة». فالنص المعرّب يقارب كثيراً «جودة» النص الأصلي ويضيئه لكن مع الحفاظ على غموضه الأول، بحسب عبارة الناقد الآن بورير في مقدمته للترجمة العربية «الوضوح الغامض». إنها ترجمة «حرفية» كما فهمها بورخيس، ترجمة تذكر بـ «المنشأ اللاهوتي» للترجمة، المتجسد في ترجمة الكتاب المقدس، حيث «التلاعب بالنص يمكن أن يكون تجديفاً». وصفة «الحرفية» هنا تعني «الترجمة بدقة» أو «قول الشيء نفسه تقريباً» كما يقول أمبرتو إيكو. ويجب ألا ننسى أن كاظم جهاد عمل في الحقل النظري للترجمة وله بحث أكاديمي مهم على هذا الصعيد صدر هذه السنة بالفرنسية عن دار «أكت سود».

ولئن كانت قراءة رامبو غير سهلة بالفرنسية فهي تبدو هكذا بالعربية، وهذا ما يؤكد أمانة الترجمة. وقد عمد جهاد الى ملء القصائد بالحواشي المهمة، نقدياً وتاريخياً ولغوياً، حتى بدت أحياناً وكأنها تثقل كاهل القصائد نظراً الى عمقها ودقتها وشموليتها. لكن هذه الحواشي منحت الترجمة و «الآثار» ميزة فريدة حتى ليمكن القول إن عمل كاظم جهاد هو الأهم حتى بين الطبعات الفرنسية لأعمال رامبو. لماذا؟ لأن كاظم جهاد أفاد كثيراً من كل التحقيقات التي حظيت بها هذه الأعمال في طبعاتها المختلفة، وقرأ ما كُتب عن رامبو وما تناول سيرته وشعره، وسعى الى استخلاص ما أمكنه ليقدم الى قارئ العربية دراسة عميقة ومقتضبة وحواشي تحيط بأسرار رامبو شاعراً وشعراً. ولا أخال أن طبعة فرنسية استطاعت أن تجمع «شمل» ما كُتب عن رامبو مثلما فعلت هذه الطبعة التي هي موقنة تماماً أنها تتوجه الى قارئ عربي. إنها ترجمة شعرية ونقدية وتاريخية تمنح القارئ فرصتين للقراءة: قراءة استطلاعية وقراءة تأويلية كما يقول جهاد. وفي القراءتين لا بد للقارئ من أن يتمتع بجمال الترجمة وجمال التأويل.

شاء كاظم جهاد أن يرفق ترجمته بمقدمات ثلاث إضافة الى المقدمة – الدراسة التي وضعها هو. مقدمة كتبها الشاعر الفرنسي آلان جوفروا وأخرى الباحث «الرامبوي» الشهير آلان بورير وأخرى بالعربية كتبها الشاعر عباس بيضون. والمقدمات تختلف واحدتها عن الأخرى وتعالج الواحدة منها إشكالات رامبوية بارزة، ما جعلها ثلاثة مداخل الى شعر رامبو. وإن كان يصعب الإتيان على كل ما ورد في هذه المقدمات فمن الممكن التوقف عند الإشكالات التي طرحتها للنقاش. واللافت أن كاظم جهاد نفسه يتطرّق في مقدمته الضافية الى هذه الإشكالات مبدياً رأيه في شأنها وساعياً الى إضاءتها نقدياً. ولعل أول هذه الاشكالات يكمن في ما يُسمى «صمت» رامبو أو انتقاله الى حياة أخرى هي نقيض حياته الشعرية، ظاهراً على الأقل. هذا «الصمت» الذي خضع للتأويل وما برح، كرّسه رامبو نفسه عندما أجاب على سؤال صديقه دولائيه عن الأدب قائلاً: «لم أعد أفكر به» (سبتمبر 1878). هذا «الصمت» الذي كان ولا يزال أحد أسرار رامبو اختلف حوله الشعراء والنقاد. ينقل آلان جوفروا رأي اندريه بروتون «بابا» السوريالية في هذه المسألة ويرد عليه. يميز بروتون بين رامبو الشاعر ورامبو الرحالة، بين رامبو الجواني ورامبو البراني، رامبو الرائي ورامبو التاجر، منحازاً طبعاً الى رامبو الشاعر والرائي وآخذاً على رامبو الآخر. أما جوفروا فيرى أن رامبو كان مزدوجاً منذ البداية لأنه أكثر من شاعر، إنه «كوكبة» كما يقول، «كوكبة» تشكّل «نسيجاً لضمائر شخصية مختلفة مدفوعة الى العمل: أنا وهو وأنت وهم ونحن وأنتم... كوكبة سائرة لاستكشاف كل وجوه الواقع والذات». ويرى جوفروا أن رامبو لم يعد في حاجة الى الشعر في المنقلب الآخر الذي انتهى اليه. لكنه ظل يدوّن ما يشبه «الملاحظات» في حياته الأخرى. ولكن هل يعني هذا التدوين أن رامبو كان يمارس الكتابة؟ يقول جوفروا: «لم يهجر رامبو الكتابة» في حياته الأخرى وقد كان هناك في أفريقيا «مزيجاً من البراغماتية والاستكشاف».

كاظم جهاد يستخلص أن «صمت» رامبو لم يحلّ ليبتر عمله الشعري أو ليوقفه «في ما يشبه تعباً أو انهزاماً» بل «ليشير الى بلوغ صاحبه مرماه واستنفاده غرضه». وترى هل يُستنفد الشعر حقاً كحالة أو موقف؟ يقول جهاد إنه يؤمن مع آخرين بأن «رامبو لم يهجر شعره، بل أتمّه» مرتكزاً الى قول رامبو نفسه: «صنيعي الشاسع أتممته». ويوازي جهاد بين الشعر والحياة لدى رامبو، «الشعر بما هو مشروع حياة والحياة بما هي صنيع شعري».

كتب رامبو الشعر في حياته الأولى، حياته الشعرية التي لم تدم أكثر من خمسة أعوام، وعاش الشعر في حياته الثانية، بروحه وجسده، عاشه في الشرق الذي طالما تاق اليه هو الذي سمى نفسه «ابناً للشمس»، هو الذي كان يقرأ «القرآن» منذ الطفولة مع «الكتاب المقدس»، هو الباحث عن «الحرية الحرة» وعن «المعرفة» خارج فرنسا التي كان يكرهها وخارج أوروبا المسيحية المنقطعة عن جذورها الإغريقية. آلان بورير يسعى الى «الانتصار» لرامبو شاعراً عربياً. يقول بورير ان رامبو «كان يتكلّم العربية بروعة». وفي رأيه أن هذا الشاعر فرغ من الشعر بعدما أنهى «إشراقات»، وراح يبحث عن «شعر» آخر قادر على تغيير الحياة. هذا الكلام يذكر بما قاله ملارمه: «عالج رامبو نفسه من الشعر وهو حي». يلح بورير على «عروبة» رامبو مذكراً بالاسم الذي تبناه في اليمن وهو «عبده رامبو» وجعله محتوى للختم المكتوب بالعربية وكان به يوقع الوثائق والمعاملات. ويغرب بورير في تأكيد «عروبة» هذا الشاعر الذي لبى نداء الشرق أو «الوطن البدئي» معتبراً أن رامبو كان «يلتحق» من دون أن يدري بـ «الصورة الأصلية للشاعر العربي، هذه الشخصية الشرسة والمهيبة، المسلحة بإزاء الأقوياء، والمتمتعة بالكلمة التي تصيب مقتلاً والتي «تتأبط الشر» وتنقله معها كعصا ساحرة».

ويرى بورير أيضاً أن شعر رامبو «ينسجم بما فيه الكفاية مع المعارضة التفاخرية والهجائية التي تؤسس التراث الشعري العربي». وفي صدد «تعريب» صورة رامبو الشرقي لا يتوانى الناقد الفرنسي عن المقارنة بين مصير الشاعر تأبط شراً ومصير رامبو أو عن تشبيه رامبو بالحطيئة «الدائم الترحل» ذاكراً أبا العلاء المعري وأبا العتاهية. وإن كانت هذه المقاربة قابلة للنقاش و «النقض» لا سيما أن رامبو لم يذهب الى الشرق إلا بعدما أنهى صنيعه الشعري وانقلب على حياته الأولى متمرداً على شخص الشاعر الذي فيه، فإن بورير يؤكد أن «تصور» رامبو العربي ممكن جداً، «سواء عبر اللغة أو الزي أو بعض التصرفات أو عبر الاسم والختم أو عبر انفتاحه على الإسلام الذي درسه، شأنه شأن ابيه وقام بتعليمه، كما يُروى، ولكن على طريقته الخاصة». لكن بورير لا يلبث أن يصرّ على الاحتراس «من إحالة هذا كله الى وعي شقي ومطلق التوحد داخل شمولية ما، دينية كانت أم سياسية». ويجد في رامبو نموذجاً فريداً بين الغربيين أو المستشرقين والمستعربين الذين ارتبطوا بالعالم العربي ارتباطاً غير كفاحي، نموذجاً يسميه «المخترق». ولن ينسى بورير تشبيه أبي نواس أو النؤاسي برامبو قائلاً: «هكذا لن يعدم النؤاسي أن يُقدّم لاحقاً باعتباره رامبو هذا الشعر العربي الذي لم يعد يمكن اليوم حصر أبنائه المشاغبين». تُرى هل تمكن المقارنة بين رامبو وأبي نواس وكيف؟

على خلاف آلان بورير يتحرّى عباس بيضون في مقدمته عن أثر رامبو في الشعر العربي المعاصر، مسمّياً إياه «إماماً غائباً وسلفاً مباشراً لآبائنا الأدبيين». لكن بيضون يكتشف أن رامبو «اسم» وقوّته في ذاته. ترجم سان جون بيرس الى العربية وكذلك لوركا ونيرودا ويانيس ريتسوس وسواهم، لكن رامبو لم يحظ بترجمة ممكنة. حتى مجلة «شعر» لم توله الاهتمام اللائق به لا ترجمة ولا نقداً. هكذا ساد اسم رامبو وغاب نصه أو حضر في حال من التشوّش. يرى بيضون أن أثر رامبو غاب عن شاعرين اعتبرا «سليلين رامبويين» على نحو ما: أدونيس وأنسي الحاج. آثار رامبو غائبة إذاً عن معظم الشعر الحديث في ثورتيه، التفعيلية والنثرية. لكن بضعة أطياف له تظهر هنا وهناك لا سيما في قصائد النثر لكن يصعب اقتفاؤها. الشاعر شوقي أبي شقرا الذي ترجم قصائد لرامبو في مجلة «شعر» استعار عنوان قصيدته «يدا فاطمة» من قصيدة رامبو «يدا جان ماري». بعض الشعراء الشباب استوحوا تجربة «الجحيم» من غير أن يقعوا في حال «التناص» مع رامبو. لكن نظريتي رامبو حول «تشوش الحواس» و «الرؤيا» اللتين حملتهما رسالتاه «الرؤيويتان» الشهيرتان (ترجمهما كاظم جهاد) كان لهما وقعهما القوي في سرائر بعض الشعراء الشباب. كان رامبو إذاً حاضراً وغائباً في الحين عينه خلال «الثورة» الشعرية الحديثة. لكنه لم يكن «أباً» شخصياً لشاعر معين أو لجيل معين، هو الفتى الذي فرض نفسه كمؤسس فعلي للقصيدة الحرة الحديثة ولقصيدة النثر.

مقدمة كاظم جهاد والحواشي التي وضعها تجعل القارئ العربي في قلب عالم رامبو وفي صميم تجربته، علاوة على رسمها مساراً حياتياً وشعرياً لهذا الفتى الساحر، الشديد التناقض، الملاك والشيطان، المناضل السياسي والرائي، المشاغب والمؤسس، رائد شعرية «التلوّث» و «الدم الفاسد» وشعرية الحلم والرؤيا والأبدية... يحدد كاظم جهاد عناصر التجربة الرامبوية ببضع مقولات: الأبوان، المرأة، الأصدقاء، التمرّد الاجتماعي والسياسي (الكومونة)، صدمة باريس وشعرائها، الانقطاع والصمت، الترحل في أوروبا، الرحيل الى الشرق، التجواب الدائم... أما «شرق» رامبو فيعدّه جهاد «شرق الشروق» أو «الشرق الأصلي» الذي لم تؤثر فيه «جدلية» الشرق والغرب. شرقه هو «الشرق القديم» الذي لم يبق موجوداً على الخرائط. وبحسب كاظم جهاد أثرى رامبو القصيدة بما يسميه «نثر العالم»، وهو نثر كانت لدى رامبو قناعة بأن القصيدة لا تقوم من دونه. ويصف شعره وصفاً «تناقضياً» فهو «شعر موضوعي لا واقعي، تجريبيّ لا تخميني». ولعل وصفاً كهذا هو بمثابة دليل الى «شعرية» رامبو. ويرى جهاد ان هذا الفتى أسس لغة جديدة تأثر بها شعراء «المستقبل» لاحقاً أو «وارثوه العظام»: أبولينير، انطونان آرتو، هنري ميشو ورينه شار. وفي رأيه أيضاً أن رامبو أسس «الكتابة الآلية» التي تغدو تجارب السورياليين بسيطة مقارنة بما فعل هو بها، تاركاً المبادرة للكلمات، تجرّه بموسيقاها الى لقى عجيبة وصور مرئية تتفجر وتشرق أمام عينيه.

عمل كاظم جهاد طوال أعوام على إنجاز هذا المشروع البديع الذي يُعدّ فعلاً مشروع حياة، باذلاً الكثير من الجهد، سواء في الترجمة البديعة والأمينة، أم في الشروح والحواشي التي أغنت القصائد وبدت مكملة لها، أم في المقدمة الضافية التي تغني عن قراءة الكتب التي وضعت عن رامبو. هذا عمل جماعي قام به شخص بمفرده، شاعر وناقد، عرف كيف يوظف ذائقته وثقافته ومنهجيته، ليخلص الى عمل لا يمكن وصفه إلا بالإبداعيّ.

عبده وازن 6 أكتوبر 2007

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى