> علي صالح محمد:

لم أكن أتخيل كغيري ممن استمعوا إلى خطبتي صلاة العيد في جامع الجند بحضور فخامة الرئيس، وهو(الذي دعا ليلتها جميع القوى السياسية لفتح صفحة جديدة من الحوار والتفاهم) أن خطبتي العيد صارتا نشازاً يثير الاشمئزاز، وتحريضاً وبغياً لتسفيه الحق، وتقرباً للسلطة مثيراً للشفقة، حين تذهب في تحقير الناس كل مذهب، وبابتداعه تفسير معاني حروف كلمة (وطن) لتصبح (ولاء وطاعة ونظام)، وحين بحثت في كل القواميس من لسان العرب إلى المحيط ومحيط المحيط، والوسيط، والمغني، والقاموس المحيط، وتاج العروس لم أجد لها مثل هذا التفسير المبتكر الذي يوظفه سياسياً وهو يسيء أكثر ما يسيء بذلك للحاكم (الذي يمكن أن يمثل أبناء الوطن لكن لايمكن أن يختزل الوطن في شخصه).

ولعله قصد بهذا التفسير ما يعتمل في صدره، بمعنى أن (وطن) تعني (ولاء - طاعة - ناصر الشيباني) للسلطة، وحين تصل الأمور إلى هذا المستوى من الاستخفاف فهذا يعني أن التشنج لدى بعض أطراف السلطة قد بلغ مداه، وهنا كما يقول الكاتب فؤاد مطر (إن الانتكاسة تحدث عندما يعلو صوت التشدد على الصوت المرن، وعندما يدير غرفة العمليات أولئك الذين يعتمدون تبسيط المسائل إلى درجة الظن أن الله معهم) ومثل هذا الخطاب ما هو إلا امتداد لحالة الانفلات الملازمة للخطاب السياسي مؤخراً والذي يأتي في إطار إطلاق العنان للفتاوى السياسية والدينية لإضفاء الشرعية وإجازة أعمال القتل والقمع المستمرة التي تشهدها المحافظات الجنوبية والشرقية تحديداً وبلغت مداها بصورة سافرة ليلة الاحتفاء بالذكرى الرابعة والأربعين لثورة الرابع عشر من أكتوبر حين حصدت الرصاصات القاتلة مجدداً أربعة وأصابت العشرات من خيرة رجال ردفان الطيبين، لا لذنب اقترفوه سوى أنهم يمارسون حقهم في الاحتفاء بذكرى الثورة في منطقة انطلاقها، وبهذا العمل يستمر النظام وبإصرار في مواصلة العدوان السافر على الناس وحقوقهم التي تتضمنها المواثيق والشرائع السماوية والدستور والقوانين النافدة وفي مقدمتها حق الحياة باستخفاف مثير للغضب والحنق، وكأن السلطة بهذا تكافئ- وإن بأثر رجعي- ردفان وأبطالها من الذئاب الحمر نيابة عن المحتل الإنجليزي وانتقاماً له في هذه المناسبة.. وهنا تحضرني بعض أبيات أبي الأحرار الزبيري:

إن شئتم فاقتلوا من ليس يعجبكم

أو من ترون لهم في قربكم دنس

واحرقوهم بغاز كلما اجتمع الأحرار

أو فكروا في الرشد أو حدسوا

هناءة الحكم أن أعماكم بله

عن الكوارث واستغواكم حرس

إن أجهزة السلطة التي ارتكبت هذا الفعل المشين تكون قد أكدت مجدداً حقيقة طابعها القمعي الاستبدادي، وكشفت بجلاء حقيقة عدائها لمواطني الجنوب وللإنسان في اليمن عامة، وحقيقة أن الجنوب يعيش في حالة هيمنة باسم الحفاظ على الوحدة لنهب الثروة، وأنها بذلك تسعى وبقوة لتنفيذ مخطط تمزيق الوطن وتعريض وحدته للخطر وهي تمارس- منذ أن اختارت لغة المدفع في 1994 - بدأب إرهابها وتمسكها بنهج القمع في تنكر واضح للغة الحوار (لأن كلمة الحوار- كما يقول الأستاذ أحمد محمد نعمان- لاتطاق.. إنها تؤذي أسماع وقلوب القتلة والسفاحين من أعداء الشعوب وتجار الحروب.. كلمة الحوار ترهب أولئك الذين لايحسنون الحوار ولايفهمونه ولايطيقونه) وسيظل الناس متمسكين بقوله تعالى:” ولئن بسطت يدك لتقتلني ما أنا باسط يدي إليك لأقتلك، إني أخاف الله رب العالمين، إني أريدك أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار، وذلك جزاء الظالمين” (المائدة).

ويبدو أن الشيء الوحيد الذي سيسجل للسلطة وهي تمارس وبإصرار قمعها للناس بدلاً من حمايتهم، أنها من حيث لاتدري قد أكسبت الناس القوة اللازمة لمواصلة المواجهة السلمية بإصرار بعد أن كسرت لديهم عقدة الخوف التي تملكتهم لفترة من الزمن مثلما حصل في الاحتفاء الجماهيري السلمي يوم 14 أكتوبر في ردفان، وأصبح الناس يدركون أن أخطاء النظام المستمرة وسيول الدماء المهدورة ستكون مصدر الهزيمة واللعنة التي ستلاحقه (لأن من قتل نفساً بغير حق فكأنما قتل الناس جميعاً) ومن عاش بالسيف مات بالسيف، ومن يزين المكان هم الناس والبشر وليس الجبال والحجر.