مؤذن مجنون وكيّال أعور

> محمد علي محسن:

> قلت في أكثر من تناولة أو حديث إن جل مصائبنا ومعاناتنا ناتجة عن غلبة الهوى والفوضى والعاطفة على ما دونها من العقل والمنطق والواقع والمعرفة وغيرها من مؤهلات نجاح وتطور الأمم، ما نراه اليوم من مظاهر احتجاجية مطلبية -وتواجه بالرصاص والقمع - هي نتاج طبيعي لحالة مزمنة من الفوضى السائدة الآن وما كان لها أن تصل لمرحلة خطرة مثل هذه لولا هيمنة الهوى في الحكم أو طغيان العاطفة عند المحكومين، وما هو حاصل في الوقت الحاضر يمكن القول إنه صورة مثلى مجسدة للفوضى بكل ما للكلمة من معنى.

ثلاثة أضلاع استبدت بحياتنا لدرجة أفقدتنا البصر والبصيرة بإمكانية العيش في نظام وسلام ورفاهية خارج هذا المثلث (الهوى والعاطفة والفوضى)، العقل للأسف مازال مغيباً ومقصى، ولعلني هنا أورد مثلاً سمعته من شخصين مختلفين الأول في السلطة والآخر في المعارضة ومفاده يكاد يكون واحدا رغم اختلاف اللفظ، حيث وصف الأول الأوضاع الراهنة بمثل يقول «ما للمسجد الصابئ سوى المؤذن المجنون» فيما الثاني علق على ما يحدث من عنفوان شعبي عفوي بقوله «ما للحَبّ الخشش غير الكيال الأعور»، كلا الاثنين ربما اتفقا من حيث لا يدريان أو يريدان وأن ما نشاهده هو تعبير صادق لفوضى عارمة لا ينفع معها سوى المؤذن المجنون في المسجد القفر الخالي من المصلين أو الكيال بنصف النظر للحب المسوّس، فكلاهما المجنون والأعور دلالة فوضى وعبث واستهتار مطلوبة وذات فائدة في مرحلة كهذه لا يجدي معها العقل والنظام والقانون والأحزاب والمؤسسات...إلخ مثلما يصلح لها أذان مجنون غير منضبط بمواقيت، أو كيال أعور.

40 عاماً مضت على الاستقلال الوطني 30 نوفمبر 1967م.. لكأن هذه العقود الاربعة ليست كافية لمراجعة الذات واستخلاص العبرة والدرس، مصائبنا ومآسينا سببها الرئيسي هذه الفوضى والعاطفة والهوى، ودون إحكام العقل والنظام سنظل أسرى أفعال عاطفية لا تنتهي بغير الكوارث.. الرأي الصائب هو ثروة التفكير وفق تعبير أرسطو، كما أن ثقة العاطفة شهر وثقة العقل دهر بحسب حكمة عربية، وعلى هذا الأساس أجزم أن أكثر معاناتنا بفعل تنحية العقل عن التفكير والعمل وبدلاً عنه يتم إحلال الهوى والفوضى والعصبية والطيش وغيرها من الأفعال اللاعقلانية واللا نظامية واللا مسؤولة التي أفسدت حياتنا وأحالتها جحيما لا يطاق من الصراعات الدموية والحروب والاقتتالات والثأرات والأحقاد والفرقة والكراهية والاستبداد.

عندما غابت الحكمة صارت أهداف الثورة مصلوبة تتصدر واجهة الصحف بلا قيمة أو نفع، ومثلما صلبت الثورة الأم كانت أيضاً ثورة الجنوب قد اختطفت لمكان قصي ولمرات عدة وسيناريو الاختطاف يتكرر من الجماعات المختلفة إلى أن تحققت الوحدة التي مثلت لنا جميعاً ملاذا نستجير به من حمى الشعارات الثورية التقدمية والرجعية ومن إخفاق الثورتين المغدور بهما، وإذا بالدولة الواحدة تقيم أعمدتها وبنيانها على أرض وحلة ومداميك مغشوشة ومساحة ضيقة لا متسع فيها لغير النظامين المتقاسمين للحكم، ولأن الوحدة قامت على هكذا نحو من الهشاشة والفوضى والعاطفة أكثر من إحكام العقل والواقع والتجربة الطويلة الزاخرة بالدروس والعبر الكفيلة ببناء صرح قوي ومتين وعلى أسس صحيحة وفيه متسع لكل اليمنيين دونما استثناء لا كما رأيناه هشاً وعرضة للانهيار بعد مضي بضعة أعوام.. فما رأيناه بعدئذ من سقوط وانهيار للدولة الجديدة ومن سرقة للوحدة الحلم والأمل ما هو سوى نتيجة حتمية لقرار ارتجالي محض في لحظة تاريخية سادتها الفوضى والهوى والحنين الوجداني أكثر من تغليب العقل والمنطق والفائدة المرجوة.

ما يحدث في الحاضر من حراك شعبي مطلبي هو مشروع وجدير بالدعم، كما أن تصالح وتسامح فرقاء الأمس ليس فيه ما يدعو للريبة والتوجس بقدر ما يتطلب مباركته وتوسعة نطاقه ليشمل كل مساحة الوطن.. ما يستوجب الحيطة والحذر هو تكرار عنفوان الماضي اللا واعي واللا عقلاني، فليس هنالك أسوأ من الأفعال النزقة والمتطرفة وغير المدركة أو المستحكمة بانفعالاتها وحماستها والتي لطالما جلبت لنا المصائب والأذى، ولئلا نعيد الكرّة علينا التفكير جلياً بما نفعله وننشده فلا نريد حراكاً عفوياً فوضوياً لا شعورياً يؤدي بنا للمجهول فيكفينا ذلكم الجنون الثوري الذي لولاه لما عدنا لنقطة المبتدأ ومن جديد، وكأنما لا ثورة أو استقلال أو وحدة تحققت بين دولتين، نعم الفوضى والظلم هما السائدان في الواقع، ونعم الوحدة تعرضت لأسوأ انقلاب عسكري طال دستورها ونظامها ووجودها، ولكن ذلك لا يعني نسيان حاجتنا لاصطفاف واع ومنظم جدير باحترام الجميع، كما أن كثرة المظالم الواقعة علينا لا تجعلنا نفقد الحكمة والعقل في سلوكنا وخطابنا مهما كبر شأنها، فالحكمة مطلوبة في مثل هذه الظروف وأي فعل سياسي نزق وطائش لا يؤدي لغير الهلكة أو الكارثة، وحسبنا عقود من الكوارث والمصائب.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى