عشر سنوات من الرحيل المحزن

> هشام محسن السقاف:

> عمر الجاوي ألق لايخفت ..هو بالتوصيف الدقيق رجل بحجم الوطن حقا، وعندما قيل إنه أمة في رجل فذاك-أيضا- ملمح من ملامح الشخصية العمرية التي تماهت في الوطن، في كل التفاصيل الدقيقة: الآلام والآمال والإمامة والاستعمار والثورة والاستقلال والتشطير والوحدة والحرب والاتفاق.. كلها مفردات في أسفار شعب ووطن، ينهض الجاوي ليكون شاهد صدق عليها ومشاركا حتى النخاع في وقائعها المحورية، منذ كان طالبا قياديا في (مصر عبدالناصر) منتصف خمسينيات القرن الماضي إلى أحداث الثورة والدفاع عن الجمهورية ودولة الاستقلال في الجنوب، إلى دوره في الدعوة الصريحة الخالصة للوحدة بين الشطرين والدفع بالقيادات الشطرية نحو تلك الغاية، التي ما حاد عنها الجاوي قيد أنملة.

إن تجليات المناضل الجسور (عمر الجاوي) التزاما بقضايا شعبه ووطنه، تكون ماثلة للعيان كأنموذج يحتذى به يسخر كل طاقاته الإنسانية لذات الأهداف الوطنية النبيلة من العمل النقابي في أول رابطة طلابية يمنية موحدة في مصر الخمسينيات، إلى العمل السياسي والانخراط في حركة التغيير بالأفكار الثورية المتقدمة غير المرتهنة لأيديولوجيا استقطابية عالمية، إلى الإيمان بالثورة والجمهورية والدفاع عنهما من الأعداء التاريخيين، إلى الوقوف في وجه القوى التقليدية الإحلالية، التي رأت في نفسها وريثا للإمامة على حساب الأهداف والمبادئ الثورية التي ناضل الملايين من أبناء شعبنا من أجلها، واتخاذه أشجع القرارات في أصعب المواقف، حيث كانت ملحمة (حصار السبعين يوما) منعطفا في حياة (عمر الجاوي) الذي يجسد نفسه في طليعة المدافعين عن المدينة الباسلة، ويشكل المقاومة الشعبية كإحدى وسائل الدفاع الناجعة عن صنعاء وصد هجمات الملكيين عنها، ومن ثم انتصرت الإرادة الوطنية المتضافرة ولم تتكرر مأساة صنعاء المستباحة في العام 1948م.

لم يتوقف العطاء العمري مع الردة التي شهدها الوطن في أحداث أغسطس 1968م، فمن البحث عن هوية سياسية في حزب العمل وسواه، إلى جعل الثقافة والأدب قوة ثالثة بين النظامين السياسيين في صنعاء وعدن، تدفع باتجاه الوحدة وإطفاء نار الحرب كلما أوقداها، والانحياز لقضايا المواطنين بقوة الكلمة والموقف. فاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين أول منظمة إبداعية موحدة على مستوى اليمن في ظل التشطير، يتحول إلى مأوى لكل المبدعين والمقموعين والمطاردين، وإلى منبر حر لمن لا منبر له، عصي على التدجين والتطويع، لذلك ارتسمت رمزية الاتحاد الوطنية في كل الأذهان، وصورة عمر ورفاقه كصناع حقيقيين لتلك المواقف المشرفة، ومع ذلك التوقد الوطني النضالي للاتحادين، لم يبهت الدور الإبداعي للاتحاد العتيد في تمازج عجيب لثنائية المثقف المناضل والمناضل المثقف.

ولم تكن الوحدة اليمنية المحققة في العام 1990م محطة الجاوي الأخيرة، أو هي استراحة محارب لم يتوقف عن فعله الوطني المتميز يوما واحدا، فقد أدرك ببصيرته النافذة أن الوحدة ليست قرارا سياسيا اتخذته قيادتا الشطرين في لحظة تاريخية معينة وتقاسمتا بموجبه كعكة السلطة، وإنما هي معطى جماهيري من خلاله تتحقق الآمال المؤجلة للشعب اليمني، وفي المقدمة الديمقراطية والحريات العامة والمواطنة المتساوية وحقوق الإنسان، ومن أجل ذلك ناضل الجاوي لتثبيت الديمقراطية خيارا يتساوى والوحدة نفسها. وتركز جهده الأكبر في ظل الأزمة التي عصفت بالوطن عام 1993م في أن يصل طرفا الأزمة إلى صيغة تطفئ نار الحرب، ومن ثم الانفصال وتؤسس لدولة عصرية، فكانت وثيقة العهد والاتفاق الجهد الوطني الجماعي الذي صاغته القوى السياسية اليمنية ككل.

للجاوي رؤيته وقراءاته المبكرة للمآل الذي ستؤدي إليه أفعال المنتصرين في الحرب الخاسرة عام 1994م إضرارا بالوطن وضدا على الوحدة، وقد شخص الجاوي الحالة في أكثر من مناسبة، كان آخرها محاضرته التاريخية في روضة الأطفال في حوطة لحج 1997م، عندما سمى الأشياء بمسمياتها الحقيقية العابثة بالوحدة والوطن، بعدها دخل الجاوي الكبير في معركته مع المرض الخبيث حتى توقف قلبه الطاهر في مثل هذا اليوم قبل عشر سنوات من الآن.. رحمه الله.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى