اصطفاف الجنوب نتاج معاناة واغتراب

> محمد علي محسن:

> كلمات قليلة خطها الكاتب الأصيل فريد بركات إبان ذروة الحراك الشعبي الاجتماعي في المحافظات الجنوبية تحت قيادة اللجان الشعبية آنذاك، ونشرت هذه الكلمات في سياق مقالة للكاتب في صحيفة «الأيام» عبر فيها عن موقفه تجاه ذلكم الوهج والغليان، مما أستذكر هو توقعاته تلك القائلة بتراجع وخفوت هذه التظاهرات الشعبية العفوية على المدى المنظور، وما لم يوجد الإطار الحاضن والموجه والمنظم لهذه الاحتجاجات السلمية، وكذلك وجود الرؤية أو الفكرة الجمعية المعبرة عن هؤلاء، فإن كل ما يحدث في الساحة من حراك غاضب مقدر له الانحسار والتوقف وليس الاستمرارية والمواصلة مهما تراءى للبعض كثافة أو زيادة رقعة التظاهرات الحاصلة، مادامت عفوية وتفتقر إلى التنظيم والرؤية والخطاب .

أثبتت الأيام فيما بعد كل تلك التوقعات والتوجسات الاستباقية، التي ربما أهملناها أو قولوا لم نعطها أية أهمية وقتئذ في غمرة انصراف الجميع أو انبهارهم بما يحدث في الواقع من تدافع وزخم وفي كل المحافظات الجنوبية تقريباً -باستثناء عدن التي لم يتح للجنتها الشعبية تنظيم أية فعالية احتجاجية رغم دورها المحوري الفاعل في معظم المحافظات - ما أخشاه في الوقت الحاضر هو تكرار العملية ذاتها الواقعة قبل نحو سبعة أعوام، ومن القيادات ذاتها والخطاب الارتجالي العفوي غير المحدد المعالم والتوجه.

بلاشك أن المعاناة تزداد وكل يوم يرتفع سقفها وضررها بين عوام الناس في مجتمع غالبيته الساحقة من الفقراء ما دون خط الوسط، وفي بلد يقبع أسفل الدول فقراً وتخلفاً وتنمية، وعلى هذا الأساس فإن ما نشاهده في المحافظات الجنوبية من حراك شعبي يكاد يكون صورة وامتداداً للأمس القريب، الفرق ربما أن القضية المطروحة لإصلاح ما أفسدته حرب صيف 94م صارت أكثر حضوراً وكثافة وجماهيرية وقوة وضرورة من ذي قبل، علاوة على ذلك كانت الأزمة الاقتصادية وما ترتب عليها من مشكلات اجتماعية ومعيشية ووظيفية وغيرها قد ضاعفت من حدة المعاناة ولدرجة لا تطاق ولا يمكن إغفالها ونحن نتحدث عن انتفاضة الجنوب .

نعم القضية الجنوبية بدرجة أساسية هي سياسية ونتاج إخفاق أو قولوا فشلاً سياسياً، لكن ذلك لا يعني أن العامل الاقتصادي الذي شهد تراجعاً مخيفاً خلال أعوام ما بعد الوحدة أو الحرب وحتى اللحظة ليس له علاقة مباشرة بما حدث ويحدث الآن من عنفوان احتجاجي مرده الرئيس بالنسبة لمعظم المتظاهرين، هو المعاناة الحياتية اليومية من الفساد والغلاء وتدني الدخل وغياب العدل والمساواة وفرص العمل .. إلخ من الممارسات أو المبررات الواقفة وراء ما نشاهده من حالة غليان، لا أقصد التقليل من شأن ما يحدث من حراك شعبي عفوي، فلولاه ما عادت مسألة إصلاح ما خربته حرب 94م على واجهة القضايا والأحداث ولما رأينا الأحزاب ووسائل الإعلام المختلفة والحكومة والدولة مجبرين لا مخيرين للتعامل مع هذه القضايا السياسية المطلبية المرفوعة، ما أود قوله هنا هو أن القضية أكبر من أن تختزل بالمقعدين قسراً من الجيش والأمن ولا هي بإقصاء الاشتراكي من الشراكة في الوحدة، أو بسبب خروج الإصلاح من السلطة إلى المعارضة، ما هو مؤكد أن كل هذه الأشياء قد تكون عوامل فاعلة ومؤثرة في مجمل العملية، لكنها تبقى ضمن سياق عام من المسببات والعوامل، ومن الأخطاء الفادحة إرجاع حركة الشارع لجمعية أو حزب أو تيار أو جهة أو شخص مثلما قدر لنا مشاهدته بمحاولة البعض تجيير ما يحدث لمصلحة ما يدعو له، بل بإمكان حادثة مرور في خط عام إثارة الناس وإخراجها للتظاهر ضد السلطة خاصة إذا كان الفاعل ذا أهمية ونفوذ أو للحادثة علاقة ورابط به .

انتفاضة هذه المحافظات ناتجة في الأساس عن معاناة بدأت فصولها ما بعد قيام الوحدة، وزادت الحرب وما نتج عنها من حالة مأساوية طالت الكل في هذه المحافظات المهزومة عسكرياً أن فاقمت من حدة المعاناة، ولدرجة جعلت الجنوب كله ينتفض ويثور عفوياً فمجرد الدعوة لأبنائه في الاحتجاج والتظاهر ستجد معظم هؤلاء خلفك ومعك أو بقلوبهم أضعف المشاركة، لذلك يمكن القول إن الجامع لغالبية أبناء الجنوب هو المعاناة الناتجة عن الشعور بالإقصاء والنفي وغياب الشراكة والمواطنة المتساوية وفوق ذلك اغتراب داخلي ومصادرة للحقوق وهيمنة جهوية مقيتة، وجميع هذه الأشياء أدت إلى ما نحن عليه اليوم من اصطفاف جنوبي عفوي لا علاقة له البتة بدعم الخارج، مثلما هي الاسطوانة الرسمية المعتادة، ولا أيضاً بالأحزاب أو الجمعيات أو القيادات في الداخل وإن كنا لا ننفي مساهمتها ودورها في الفعاليات المقامة التي تفتقر إلى التوجيه والخطاب والغاية المرجوة منها، وأكثر خشيتنا أن تفضي لجدل بيزنطي في المسمى وحدوده بدلاً عن انتزاع الحقوق وإعادة صياغة مفهوم الوحدة السلمية، فمن المهم جداً ألا ننشغل بلونها وشكلها فيما إذا كانت بيضاء أو حمراء أو صفراء أو غيرها من الصفات، بل بفائدتها وخيراتها على الجميع ودون استثناء .

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى