عالم بلا حدود:1917 أعدت إلى أمين البنك خمسة آلاف روبية فأعيدت إلي خمسة وأربعين ألفاً ..والفقيه سيف يضحي بزيادة قدرها روبية واحدة في السنة

> فاروق لقمان:

> بحلول 1917 كان الوالد محمد علي لقمان رحمه الله قد بلغ التاسعة عشرة والتحق بشركة اسمها كلايتون غالب فرنسية-لبنانية مكتبها يقع مقابل فندق متروبول الذي أنشأه وأداره الشيخ علي إسماعيل تركي رحمه الله الذي توفي في جدة بعد هجرته وقد جاوز التسعين عاماً. كما يروي حكاية عن الأستاذ أو «الفقيه سيف» من حافة حسين بكريتر وكان مدرساً في الابتدائية وخفيف الروح رغم فقره المدقع، عندما كان الأستاذ حمود حسن، جد السيد طه حمود وإخوانه أحمد وياسين وجميل وعلي وتوفيق وعيدروس وبدر - رحمه الله - وعدة سيدات فاضلات، ناظراً للمعارف.

يقول الوالد: «في صباح يوم من أيام عام 1917 أحصيت النقود التي كانت في الخزانة في مكتب كلايتون غالب وشركاه وقد كنت أمين الصندوق ومدير المراسلات الإنجليزية إذ كان المدير لويس الخازن يراسل المكتب الرئيسي في جيبوتي باللغة الأفرنسية وكنت أنا المشرف على الطالع والنازل (الصادرات والواردات) ووجدت مبلغ 4900 روبية زائدة في خزانتي وراجعت الحساب مراراً فلم أستطع أن أعرف كيف دخل علي هذا المبلغ.

«بعد حين قصير ذهبت إلى البنك الأهلي الهندي لمتد (ناشنل وجرندليز الحالي) وهناك علمت أن أمين الصندوق في حيص بيص لأنه أضاع 5000 روبية في اليوم السابق ولا يدري كيف فقدت منه وتذكرت أنني استلمت من البنك في اليوم السابق مبلغاً ضخماً وربما أنني استلمت المبلغ الضائع بالغلط وأنا عادة لا أحصي ما أتسلمه من البنك إلى يومنا هذا وهي عادة غير محمودة فذهبت إلى البنك وأخبرته بالأمر الواقع وأن في صندوقي 4900 روبية زائدة وأنني كنت استلمت في اليوم السابق عدة مبالغ من أمين الصندوق، ففرح المدير ونادى أمين الصندوق وكان فارسياً وذهبنا إلى مكتبي حيث أخبرت المدير لويس الخازن بالأمر وراجعنا حساب الصندوق وتذكرت أنني دفعت 100 روبية لم أقيدها وهكذا أعدت إلى البنك الخمسة ألف روبية الضائعة.

«وقد تكررت هذه الحادثة إذ سلم أمين صندوق البنك هذا 800 شلن لسائق سيارتي بالغلط وأخبرني بعد مرور أربع ساعات وذهبت أفتش على السائق الذي كان على أهبة السفر وقد ظن أنني أعطيته الشيك بألف شلن بدل 200 وأعاد الفرق إلى (أماريا) أمين الصندوق وهو موجود حالياً في البنك.

«وحدث في عام 1918 أن شحنت 1000 عدة بن و3500 ربطة جلود بقري أعدها المقدم أحمد الكحلاني وكان علي أن أحمل 45000 روبية نولون الباخرة و3 ضمانات بمئات الآلاف كان لا بد من إرسالها إلى لندن والإمضاء عليها بوصول المال المذكور وكانت في عدن رقابة تموين شديدة «كنترول» وكان مدير الجمرك عبدالحبيب خريجي.

«وذهبت أحمل النقد في ظرف كبير من الضمانات، فئة ألف روبية، لأسلمها إلى بيت كوري براذرس في التواهي وكان وكيلهم المستر تايلور وركبت عربة خيل في يوم عاصف في رمضان وكان الريح شديداً جداً قبل الظهر وأغفيت على العربة ولما انتبهت كان المظروف قد طار وطار عقلي معه وعدت بالعربية أدراجي لعلي أجده، من دون جدوى حتى الساعة الرابعة بعد العصر، جائع عطشان غلبان، فإن ضياع 45 ألف روبية ليس بالأمر السهل ورأتني أمي وأنا في حالة مزعجة، أكاد أفقد حاسة النطق والتفكير، وقربت مني زوجتي في حنان شديد اضطرني إلى الابتسام فقد كانت حبلى بعلي ولدي البكر، ولم أكشف لها الأمر رفقاً بها. وخرجت الساعة الخامسة وأنا أضرب أخماساً في أسداس حتى وصلت إلى المكتب المقابل لفندق متروبول ووقفت ساهم الطرف لحظة خلتها دهراً وأنا عند الباب فقد كنت أنام في البيت لحراسته مع الطاهي محمد الأغبري وحارس آخر.

«وبعد لحظة أخرى وإذا برجل يقف أمامي وبيده الظرف الضائع، ومد يده إلي به واختفى وأنا جامد متبلد بارد الأطراف فاقد الإحساس أكاد أن أقع على الأرض. كان ذلك الرجل الطيب هو (الصدة) الذي أنقذته من سجن 5 سنوات حين اتهم مع صادق سنبل في قضية سرقة السلاح.

«وأذن المغرب فناداني الطاهي وانتبهت من ذهولي ودخلت البيت وفتحت الظرف فإذا بكل شيء فيه كما كان، وهدأت نفسي رويداً رويداً وخرجت إلى الشرفة لعلي أجد الصدة لأكافئه فلم أجده وسألت عنه بعد ذلك فعلمت أنه سافر.

«كنت قد أعدت إلى أمين صندوق البنك 5000 روبية فأعاد إلي رجل كريم 45 ألف روبية وأعاد إلي شرفي وهنائي ولم أستطع أن أرد له الجميل إلى اليوم.

«تعرفت ذات يوم بالفقيه سيف غالب الخديري بواسطة صديقي الفقيه أحمد محمد عبدالله آل يعقوب وهو ابن خال أمي.

كان الفقيه سيف قصير القامة، خفيف الروح، طروباً، مرحاً ومحدثاً لبقاً، في عمر الزهور، حين التقيت به ذكياً، دارساً للفقه أديباً حافظاً للزبد ولآجرومية بن مالك وكان مع كل ذلك فقيراً لا يملك من حطام الدنيا غير سرير ينام عليها في الشارع عند مبرز الحاج رفعة عبدالله اسماعيل يعمل معلماً في مدرسة الحكومة الابتدائية براتب 10 روبيات في الشهر. وكان ينتقد نفسه ويسخر من الناس ومن المجتمع فلطالما أدخل على قلوب الناس السرور والفرح وأضحكهم فتقربوا منه ليسمعوا نكاته وكأنه بيننا الجاحظ أو الحطيئة لا ينفك هازءاً مازحاً ساخراً يزورني في أكثر الأيام فنأكل معاً، ونزوده بالقات الذي كان متعته وراحته.

«ذهب بعد ظهر أحد الأيام إلى المدرسة وقد ملأ شدقيه بأغصان القات وصادف أن دخل عليه السيد حمود حسن ناظر المعارف فقال له «ما هذا الذي في فمك؟» فقال «تعزي» وغضب ناظر المعارف وقال له قل «قات» وأذهب أغسل فمك، وذهب الفقيه سيف يغسل فمه ولما عاد قال له الناظر «ايش تعرف أنت؟» فقال له الفقيه أعرف (الزبد) فرد عليه الناظر تعرف جغرافيا، حساب، تاريخ؟

«فقال الفقيه لا، ونظر إليه الناظر بحنق وقال له ما بتحصل الزيادة هذه السنة.

«فسأله الفقيه وكم هي الزيادة فأجاب الناظر روبية ايش أنت مش داري؟

«فقال الفقيه، داري ولهذا أنا مقدم استقالتي.

أجابه الناظر، يعني تخسر وظيفتك.

الفقيه: نعم أخسرها إلى الأبد. وخرج يقول لنا أنا فارغ بلا عمل ولما سألناه ماذا ينوي أن يعمل قال كن سارقاً إن شئت رفعة واحذر فديتك أن تكون فقيها.

«وكنا نحن أصدقاؤه نحسن إليه وكان يعجب به وبأشعاره الحلمنتيشية الشيخ محمد عمر الشيبه جرجرة ويرويها للناس.

«وله قصيدة مطلعها:

«أنا الذي من دموعي تشرب البقري» يتهكم فيها بالعشاق. وذات مرة جاءه متسول ثقيل دم يطلب شيئاً لله من وسخ الدنيا وألح في الطلب فما كان من الفقيه سيف إلا أن أخذ شيئاً من الطين ووضعه في يده، وهو يقول هذا وسخ الدنيا، ورماه الشحات بالطين واتسخ قميص الفقيه وفر المتسول فقال «هؤلاء يطلبون وسخ الدنيا، وهم إنما يطلبون أغلى ما فيها، المال».

«وحدثني مرة عن واعظ كان يدعو الناس إلى ترك الدنيا ووسخها والاستعداد للنعيم المقيم في الآخرة، وجمع بعض المال وأصيب بمرض خطير فناله فزع وخوف شديد من الموت، وذهب الفقيه سيف إليه يعوده ويقول له ليش تخاف من الموت وهو يقربك من الجنة, فبكى الفقيه وقال أنا أريد أعيش لعيالي!

«وقال لي الفقيه سيف لو كان هذا الإنسان مؤمناً حقاً بما يعظ به الناس لرحب بالموت.

«وكان من محبيه الشيخ مكرد محمد عبدالله اليمني ومحمد عبدالقوي طاهر والحاج أسعد طاهر وكلنا جيران وأصدقاء.

«وجاء ذات مرة من المسجد وهو يضحك فقد أم الناس في صلاة العصر (جماعة) وبعد السلام قام صنعاني طويل إلى فقيه آخر يسأله «إيش قولك في صلاتنا وراء هذا القصير؟». وسمعه الفقيه وهو يسأل فقال له «الأحسن يا أخي أن تجدد وضوءك وتصلي» فقال ولمه؟ فقال الفقيه سيف «لأن سؤالك نقض صلاتك ووضوءك!».

«وقال لنظر يا محمد علي إن الناس لا يقدرون العلم والعلماء ويحسبون حسابهم بالطول ولو كانوا بلا عقول. وقد غادر الفقيه سيف إلى تعز حيث أكرمه الإمام أحمد وقربه لروحه الخفيفة ونكاته الطريفة التي لا حصر لها وعاد إلى عدن بعد سنوات مريضاً ومات في المستشفى ولم يدر به أحد إلا بعد حين».

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى