المكلا مقهى سياسي

> صالح حسين الفردي:

> شكلت المقاهي الشعبية في مدينة المكلا خاصة، وبقية مدن حضرموت عامة فضاءات رحبة لتثبيت أدب الحوار، وقانون الاختلاف دون الخلاف، فتنوعت موضوعات وقضايا الجدل الذي تدور رحاها على خرير فناجين الشاي ، وضوضاء الذاهب والغادي، وهمس المرحب والمودع بعد صلاة عشاء كل ليلة، إذ يهرع القوم إلى زوايا وكراسي تلك المقاهي لأخذ قسط من الراحة والتواد، وتبادل الحديث عما يعن للمدينة وأهلها من طارئ جديد، فيصير الحديث ذا شجون وفنون، وتنطلق القضايا الملحة ناثرة غبارها بين الحضور، فيحاول كل واحد الإمساك بذرات منها، وتجميعها لمواجهة الآخر المخالف له في الغاية والهدف.

والمتتبع لما يشغل التجمعات الصغيرة والكبيرة لهذه المقهى أو تلك، يمسك بالوجع الحقيقي الذي يعاني منه الناس في هذه المدينة وغيرها، وسوف يرصد بصدق ما يقلقها سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وفكريا، ففي سنوات ماقبل الوحدة كان حديث المقهى لاينشغل بمآسي القات وهموم القوت، وإنما يتلون الحديث عن مستوى الفرق الرياضية ونتائجها في الشحر والغيل وسيئون والقطن والمكلا وعدن، وكثيرا مايذهب إلى آخر ما أبدعته قريحة الشاعر الكبير حسين أبوبكر المحضار، ومحاولة فك رموزه وطلاسمه، وقد يعرج إلى النشاطات الفنية والمسرحية والثقافية التي كانت عناوين المدينة اليومية.

ولكن الحال بعد الوحدة تبدل، وجثمت السياسة بكلكلها على جنبات البلاد، وضاقت بها صدور العباد، وازداد الهم اليومي حضورا في (مانشيتات) الصحافة اليومية للمقهى المكلاوي، خاصة في السنتين الأخيرتين، حيث أصبحت الحالة المعيشية للسواد الأعظم من أبناء هذه المدينة وغيرها لاتطاق، بعد أن سحقت الطبقة الوسطى وسقطت في غياهب الحاجة والفقر المدقع، وتراكمت الثروة بيد فئة قليلة جديدة طارئة على مائدة المال والاستثمار، وبرزت طبقة السياسي (الثري) والجامعي (الفهلوي) والصحفي (الأكول) والمثقف (المبرراتي) فدفعت رواد مقاهيها إلى الحديث في السياسة عن السياسة بالسياسة، فلم يعد هناك من مخرج إلا بطرق قضاياها وخفاياها وتكتيكاتها وإستراتيجياتها، وهو ما انعكس إيجابا على تطور الوعي بقضايا الوطن والمواطن، وكشف في سياق جدله اليومي غير المعلن الكثير من النضج الذي يتمتع به المواطن (الغلبان) وقدرته على قراءة واقعه وتحليله بشكل عميق يفوق مايحاوله الآخرون، الذين يدعون تمثيله، بوصفهم نخبته وصفوته ومرجعيته، من خلال غرفهم القاتية المغلقة ووسائطهم الصحفية الحكومية والحزبية البائسة، وبرامجهم الإذاعية الصدئة والصادمة، هذه الفجوة التي وقع فيها هؤلاء المتزلفون للسلطة، جعل الناس تخلق لها نوافذ رأي عام تسري مسرى النار في الهشيم دون أن يعي القوم أن زمن التسطيح والنفاق والتلميع لم يعد قادرا على سد الثغرات وتقويم الترهلات التي لحقت بجسد مرافق الدولة ومؤسساتها، لمّا تزل أجندة التغيير الموعود تراوح مكانها، في حين أصبحت المكلا مقهى سياسيا كبيرا فاعلا ونشطا يقوّم ويرصد وينصت ويترقب بشغف كل توجه حقيقي في التغيير.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى