القضية الجنوبية والنضال السلمي والوصايا العشر

> د. عبده يحيى الدباني:

> ليس هذا بحثاً وإنما هو مقال طويل من وسط غبار الاعتصمات والمهرجانات وملتقيات التصالح والتسامح والتضامن المتلاحقة في المحافظات الجنوبية يحمل برقيات سريعة إلى أصحاب القضية جماهير النضال السلمي وقياداته وذلك على النحو الآتي :

1- هناك إجماع كبير، واتفاق واضح على وجود القضية الجنوبية بكل تفاصيلها وإيمان عميق بعدالتها وضرورة حلها، وعزيمة قصوى على النضال في سبيلها وتحقيق انتصارها، وهذه الأمور كلها في غاية الأهمية لأنها أولية وأساسية ومن ثم يبدأ البناء عليها، فقد قيل إن الظلم لا يكفي لقيام الثورة، ولكن الشعور بالظلم هو الكفيل بذلك، فعليكم أن تحافظوا على هذا المستوى الذي وصلت إليه القضية الجنوبية، أما الحلول والمخارج فإنها خاضعة للأيام القادمة بما تنطوي عليه من ظروف مختلفة مع ما يعكسه الطرف الآخر من ردود أفعال فلابد من المرونة في هذا الجانب .

2- يجب أن تعلموا جميعاً حق العلم، وتدركوا كل الإدراك أن التطرف والمزايدة والعواطف والانفعالات، والتهميش والإقصاء، وسوء الظن بالرفاق من غير بيِّنة أو شبهة، وعدم القبول بالرأي الآخر واحتكار الحقيقة والتعصب للرأي، كل هذا كان سبب إخفاقاتنا المريرة في الماضي وصراعاتنا الدامية وتمزقنا شر ممزق في الماضي، فإذا لم نتجاوزها في الحاضر والمستقبل، فإننا سنقع فيما وقعنا فيه من قبل وسنعيد نسج التراجيديا نفسها، على أن الماضي الجنوبي ليس أسود حالكاً فقد طوى بين جناحيه الكثير من الإيجابيات والإنجازات لكنما جرى الإجهاز عليها وتدميرها خلال الثلاثة عشر عاماً الماضية، من عمر الوحدة ذات الطابع الحربي القبلي الشطري، بيد أن هناك إيجايبات ظلت عصية على الهزيمة والتدمير مثل الروح المدنية واحترام القانون والشعور بالمساواة وعدم الدونية وعدم الخنوع والذل والاستسلام وغير ذلك .

3- سأخلع مؤقتاً رداء المثقف أو الأديب وإرتدي رداء السياسي - غير المحترف طبعاً على ما في النفس من تمزق - وأقول لكم إنني شخصياً أحب وأقدر أن يكون الحل في إطار الوحدة اليمنية لكنما هذا رأي شخصي فقد يوافق الحق وقد يكون ممكناً وقد لا يكون ممكناً، كما أنني لا أدعوكم إلى شحذ الهمم في سبيل استقلال الجنوب أو أشجعكم على ذلك، فالوحدة اليمنية ليست مقدسة لاسيما في وضعها الحالي، وأن الاستقلال أو الانفصال ليس هدفاً ولا واجباً، فالوحدة ليست عدواً ولا غريماً. إن الوحدة والانفصال ليسا هدفين ولا غايتين، فإنما هما وسيلتان إلى الحق أو إلى الباطل، فدوروا أنتم وطليعتكم حيث يدور الحق ويتحقق الحل الناجز حسب الظروف الموضوعية والذاتية والتاريخية، بعيداً عن الارتجال والعواطف والحماقة السياسة أو التبعية السياسية والارتهان أو التعصب الحزبي، مع النظر بعين الاعتبار إلى المواثيق والمشاريع ذات الإجماع الوطني .

4- على قيادات النضال السلمي، ورموز القضية الجنوبية أن لا ينقلوا خلافاتهم في الرأي إلى القواعد والجماهير الواسعة، حتى لا تكون فتنة، ويحدث شرخ في الاصطفاف، فالشفافية مع الجماهير مطلوبة في حدود معينة بعيداً عن العزف على مشاعر الجماهير الملتهبة .

فالعقل أو الحق هما السبيل وليس العواطف والهوى، سواء نحو اليمين أم نحو اليسار!، والحوار هو السبيل إلى التفاهم و الاتفاق وتقريب وجهات النظر، وإيجاد القواسم المشتركة، والحلول الإيجابية .

5- إن الاصطفاف في سبيل القضية أمر واجب ومطلوب وينبغي أن يعزز ولكن من دونما تشدد، فالوحدة الصارمة كثيراً ما تؤدي إلى الانقسامات أو إلى الكبت، فلابد إذن في إطار هذه الوحدة من التنوع في الرأي والطرح واحترام كل ذلك ومراعاته بحيث يكون التنوع عاملاً إيجابياً في حدوده المطلوبة والمقبولة. ينبغي أن نعلم جيمعاً أن التاريخ قد انتدبنا أن ننهض بهذه القضية العادلة وأن ننتصر لها حتى لا يسخر منا التاريخ نفسه، وحتى لا يلعننا أبناؤنا وأحفادنا إلى قبورنا حين يجدون أنفسهم ذات يوم عبيداً في أرضهم وديارهم في ظل قوى قبلية وعسكرية مستأثرة لا تبقي ولا تذر.

6- ولكن ماذا عن علاقة القضية الجنوبية بالحزبية؟ إنها إشكالية حقيقية ولكن البعض صورها وتصورها بأنها معضلة، وأنا لا أزعم أنني سآتي بالقول الفصل في هذا الجانب ولكنني سأدلي فيه برأيي، فإن أصبت بعض الصواب فمن الله وإن أخطأت بعض الخطأ فمن نفسي ومن الشيطان .

إن القضية الجنوبية ليست قضية حزبية بحتة، ولكن قد يتبناها حزب أو مجموعة أحزاب، وهنا تبرز إشكاليتان : الأولى إن هذا الحزب نفسه لا يمثل الجنوب فقط، فليس هنالك حزب شطري في الساحة ثم إن نضال الأحزاب له سقف محدد وبرنامج مقيد، ومعاملتها مع السلطة ليست معاملة الند للند، أما الإشكالية الثانية فهي أن أبناء الجنوب أصحاب القضية لا يرتبطون بحزب واحد فقط، فهم مبثوثون في مختلف الأحزاب وبعضهم مستقل سواء في الداخل أم في الخارج. فليس الجنوبيون كلهم أصحاب ولاء حزبي واحد، ولا يمكن أن يكونوا كذلك، ولكنهم بوجه عام مجموعون على عدالة قضيتهم وعلى النضال السلمي من أجلها بصرف النظر عن المحايدين أو المخدوعين أو المنتفعين أو أصحاب الرأي المخالف فإنهم قليلون، وعما قريب سينضمون إلى القافلة شيئاً فشيئا، من هنا فإن النفور المبالغ فيه من الحزبية أمر يضر القضية أكثر مما يخدمها كما أن تسليم زمام الأمور لحزب واحد أو لتكتل حزبي يشكل خطراً على القضية من الالتفاف والتجيير والاختزال، ويبقى أن يصطف الجنوبيون خلف قضيتهم على مختلف مشاربهم الحزبية والسياسية في ظل وجود ميثاق مشترك، وجبهة واسعة مستقلة، لها ثوابتها ولها تنوعها ولها ديمقراطيتها، وليس من الضروري أن يستقيل الحزبيون من أحزابهم المختلفة بشرط أن يؤمنوا بالقضية وبميثاقها وبجبهتها وبديمقراطيتها الداخلية، ولا أرى ثمة ازدواجية في هذه المسالة إذا آمنا بالتنوع والمرونة والحوار سواء في إطار الأحزاب أم في إطار القضية الجنوبية على قاعدة لا ضرر ولا ضرار، قد يحدث صراع بين الولائين الحزبي والجبهوي عند البعض، ولكن الديمقراطية تسمح لهم أن يختاروا أويحددوا ما يريدون على اعتبار أن الانتهازية والنفاق السياسي قد ولى زمنهما في ظل الديمقراطية التي لا يمكن أن نستغني عنها حتى في منازلنا وبين أهلنا .

أما الذين يتضامنون مع القضية من خارج أصحابها فنحن بحاجة كبيرة إليهم، وينبغي أن نكبر فيهم هذه الروح ونجزل لهم الشكر، ولا ينبغي أن نستعديهم أو ننفرهم ماداموا لا يزعمون قيادة الحراك ولا يمارسون وصاية عليه سواء أكانوا أحزاباً أو جمعيات أم أشخاصاً، أما الاشتراكيون والإصلاحيون والمؤتمريون والرابطيون والناصريون والبعثيون وغيرهم من أبناء الجنوب فهم ليسوا متضامنين ولكنهم عصب القضية وجماهيرها مع سائر إخوتهم المستقلين فينبغي أن يكون ولاؤهم الأساس - في إطار القضية- للقضية نفسها مع الأخذ بعين الاعتبار التنوع في الآراء والطروحات بما يخدم القضية ويعززها من غير أن يجعل منها فريسة للأهواء تتنازعها .

وعلى الأحزاب أن تقدر هذه الخصوصية والاستقلالية وأن تكون عاملاً مساعداً على نجاح القضية وانتصارها من باب الديمقراطية ومناصرة الحق واحترام إرادة الجماهير وقبول الأمر الواقع، وعلى هامش هذه الوصية أرى طرح سؤال ألا وهو : هل يستطيع الحزب الاشتراكي في هذا الظرف التاريخي الصعيب أن يرتقي إلى مستوى أن يكون صمام أمان القضية الجنوبية والوحدة اليمنية والديمقراطية بحكم ارتباطه التاريخي الكبير بهذه الثلاثية من غير أن يفرط في هذه على حساب تلك ؟ إن الإجابة عن هذا السؤال بالإيجاب أو السلب تدخل في صميم هذه الوصايا .

7- لقد بقي أن ندعو الجميع رموزاً وجماهير إلى التحلي بالإيثار وبأخلاق المناضلين المخلصين من نكران الذات وعدم المن والتباهي مهما كان الفعل والتضحية، وعدم البحث عن الزعمات والريادات والثواب العاجل، ونبذ الحسد والمناطقية والتآمر والمسائل الشخصية وغير ذلك من نزعات الشياطين، كما إن على الجميع أن ينتبه إلى أساليب المكر والدهاء التي يتعامل بها الغرماء من ترهيب وترغيب وشراء الذمم وبث الخلافات وتغذيتها، لقد قالت العرب:«إن الحرة تجوع ولا تأكل بثدييها» وأنتم جميعاً معشر أحرار وليس للمال المدنس إليكم من سبيل لأنه ثمن الحرية الإيمان ومستقبل أجيالنا وحريتهم وسعادتهم .

8- توسيع دائرة النضال السلمي وتصعيده بكل أساليبه وأشكاله وفنونه وأخلاقياته، ومده إلى مساحات ومراكز ماتزال في الظل واستعادة الدور النضالي الريادي التي نهضت به النقابات العمالية والطلابية في الجنوب خلال الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وإخراجها من دوائر الخوف والسلبية واللامبالاة والتبعية للحاكم والأمية الحقوقية والقانونية والنقابية .

9- أما هذه الوصية فقد تبدو متناقضة مع ما سبق، ولكنها في الحقيقة ليست كذلك إنما هي تحاوره وتكمله. فماذا تقولون في الاتجاه الذي يرى أن على الجنوبيين في انتفاضتهم أن ينظروا إلى ما تعانيه اليمن كلها من ويلات وظلم وفساد، وأن يتضامنوا مع الشماليين المظلومين ويحركوهم في سبيل أن يلحقوا بركب النضال السلمي من أجل التغيير المنشود على مستوى البلاد شمالاً وجنوباً، فإن في هذا الأمر نفسه تتحقق عدة أمور منها :

أ- التفويت على السلطة مسألة ضرب الجنوبيين بإخوتهم الشماليين كما حدث في 1994م.

ب- تجنب الإجهاض والفشل والإخفاق لهذه الانتفاضة السلمية المباركة.

ج - اتساع رقعة الانتفاضة وزيادة قوتها وجذوتها.

د. الحفاظ على الوحدة اليمنية بما تنطوي عليه من وحدة وطنية واجتماعية وثقافية من خلال تصحيح مسارها السياسي، وكذا تجنب التشطير وتشطير التشطير.

وأنا أعرف أنكم لستم كلكم ضد هذا الخيار بوصفه خياراً رئيساً، ولعل الأكثرية يقفون في صفه، ومع هذا فإنه ليس مقدساً ولا وحيداً، ففي استحالته تبقى الخيارات الأخرى مفتوحة.

10- أن نتمثل تمثلاً عميقاً قوله تعالى: إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم وقوله جل من قائل :وما النصر إلا من عند الله وقوله : ادعوني استجب لكم وقوله : وإن كثيراً من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليلٌ ما هم وقوله : ??ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين وقوله :والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون وقوله :قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المتوكلون على أننا لا نوظف الخطاب الديني توظيفاً سياسياً بائساً كما يفعل غرماء القضية، ولكننا نتمثله ونستلهمه ونهتدي به ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً والله ولي الهداية والتوفيق .

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى